من اغتصب طرابلس؟

يصدق في حق الذين يمارسون الجهل ويروّجون له القول:” أن هناك جرائم لا يعاقب عليها القانون، ولكن تعاقب عليها الأيام”!..
جريمة بشعة هزّت مدينة طرابلس والمجتمع اللبناني عموماً، بعد أن أقدم ثلاثة شبان على اغتصاب فتاة قاصر، لم يتجاوز عمرها 16 عاماً، بطريقة وحشية ولمرات متتالية بالتهديد وتحت تأثير المخدّر.

اقرأ أيضاً: هكذا تستعدّ اسرائيل لحرب لبنان الثانية

تعدّدت التحليلات، وكثرت الأقاويل، وازدادت التكهنات والافتراضات، وتنوّعت السيناريوهات والتلفيقات، وتوسّعت الاشاعات وتوزيع المسؤوليات، كلٌ بحسب وضعه وتركيبته وأخلاقيته وتربيته، تكبّدنا جميعاً عناء البحث عن ماهية الجريمة وأسبابها ووقائعها، وكأنها المرة الأولى التي تحدث فيها جريمة اغتصاب.
لكن ساه عن بال اللبنانيين بأن الجريمة التي ارتكبت في حق تلك الفتاة، ارتكبت مسبقاً في حقهم جميعاً، كلّنا نتعرّض للاغتصاب يومياً، اغتصبنا في حقوقنا، وكرامتنا، وتعليمنا، واقتصادنا، اغتصبنا حتى في ثقافتنا، نحن في وطنٍ فضّت بكارته من سنين طويلة!..
أبناء طرابلس الموجوعون اليوم على ابنتهم المغتصبة، عادوا ليكرّروا الجرم مرات ومرات، ببثهم سموم المعلومات والأفكار والمعطيات، كلهم أصبحوا أطباء شرعيون، كلهم أصبحوا مشايخ ورجال دين يفتون ويسامحون، كلهم قضاة ومحامون، كلهم أساتذة واخصائيون اجتماعيون.
حقيقة الأمر، طرابلس اغتصبت منذ عهود، منذ أن سمحنا للجهل أن يدخل منازلنا، منذ أن ربّى البعض أبناؤه على أن ثقافة الحوار مع الأهل والديموقراطية في اتخاذ القرارات العائلية عيبٌ ووقاحة. منذ أن وافق البعض على أن اختلاط الجنسين في مدرسة واحدة، رجسّ من عمل الشيطان، ونسي ما هو أدهى وأمرّ. منذ أن تعلّمت الفتاة في عمر المراهقة، عدم مصارحة أهلها بمكنوناتها العاطفية والجنسية وكبتها الى ما شاءالله، وتركنا وسائل الاعلام تروّج للرزيلة ليل نهار. منذ أن أفهم البعض الشاب بأن النظر الى الفتيات والتحدث معهنّ أخطر من تعاطي المخدرات، وبأن النظرات البريئة وخفقان القلوب فعل رذيلة. منذ أن تعلّمنا في صفوف الابتدائية والاعدادية وصولاً الى الثانوية من بعض الأساتذة بأن الحب حرام قبل الزواج، وبأن المحادثات الهاتفية بين الولد والفتاة عقوبتها جهنّم وبئس المصير. طرابلس اغتصبت يوم تخلّينا عن تعاليم ديننا السمحاء، دين الاعتدال، وسلكنا طريق التزمّت والتطرّف.
طرابلس اغتصبت مراتٍ ومرات، حين شهد أولادها على تهميشها ولم يحركوا ساكناً، طرابلس اغتصبت حين قبل أبناؤها واقعها، ودافعوا عنه، واعتبروه من طبيعة مجتمعهم ودينهم وفكرهم وثقافتهم، طرابلس اغتصبت يوم تركنا الشباب تموت غرقاً في البحار بحثاً عن فرصة عمل أو لقمة عيش، طرابلس اغتصبت حين تجاوز الفقر فيها حدوده القياسية، وحين كسرت الأميّة أرقامها العليا، وحين أضحت البطالة خاصة من خصائص تركيبتنا الاقتصادية.

الاشتباكات بين جبل محسن وباب التبانة في طرابلس
طرابلس اغتصبت يوم تجرأ فيها الجاهل على العالم، ويوم تمادى الغبيّ على المثقّف، وأصبحت السرقة واساءة الأمانة والاحتيال ذكاء، أما التربية والأخلاق والسمعة الحسنة غباء.
على هذا الأساس، ما حصل في طرابلس ليس فعل أو ردة فعل، ما جرى في الفيحاء جريمة بكل المقاييس، جريمة ولدت من بيئتها، من مجتمعها، وان كان أبطالها اليوم الشبّان الأربعة والفتاة المسكينة، الا أن تلك الجريمة بذات الأوصاف تحصل كل يوم، في كل مدينة، وفي كل قرية، دون حسيب أو رقيب!..
أما أنت يا ابنة الفيحاء، فلن أحاسبك، ولن أجادلك، ولن أحاورك، ولن أطلب منك تزويدي بالمعلومات والمعطيات والمسببات، ولن أعاقبك، لأننا نحن من أخطأنا في حقك، وفي حق أبناء جيلك.
أنتِ صورة عن طرابلس الضحيّة، صورة عن كل لبنان، صورة عن اللبنانيين جميعاً، صورة عن القهر والاذلال، صورة عن الحرمان والضياع، صورة عن واقع جيل ومستقبل أجيال..
يا ابنة طرابلس، حين تكبرين أخبريهم بأن براءتك أسمى من ذكوريتهم، وأن طهرك أرقى من وحشيتهم، أخبريهم أن ضوء الأمل سيجرح عتمة الجهل، علّميهم أن شمس طرابلس ستشرق من جديد، أخبريهم أن الدخول الى الفضيلة يكون من بوابة المأساة..

(المسقبل)

السابق
هيدي حرب…!
التالي
تموز 2006.. يا فرحة ما تمّت