صلاة باتجاه «القُبلة»

قبلة
حتى ذلك اليوم، كانت فروع "بردى"، سبعة، مني تفرع ثامنها. خرجت من بيتي في زقاق "تحت القناطر" حيث يخترق "بردى" الحي متجهة نحو دمشق القديمة، فتاة عادية، عدت إليه عند المساء، نهرا. قدر يشبه السحر كان ينتظرني في منزل صديقتي في "باب توما"، التي دعتني إلى عرسها. صدفة ذوبت عظامي ولحمي وجلدي، أحالتني ماء رقراقا، شفافا، متراقصا، فرعا من "بردى" يجري في ذاكرتي وحدي.

كان بيتها يغصّ بالمدعوين، رجالا ونساء، في بيت صديقتي لا فصل بين الجنسين، نساء يرخين بحرية ودلال خصلات شعرهن على أكتافهن، ويرتدين فساتين قصيرة تظهر جمال سيقانهن، ومساحيق التجميل التي وضعنها بدقة ودراية تزيد من ألق وجوههن ولمعانها، تحت حبال الأضواء الملونة التي تزين فضاء أرض الديار. الرجال في كامل أناقتهم، بدلات رسمية مكوية بعناية، ربطات عنق، أحذية أشد لمعانا من زجاج غرفتي، وعطور تفوح وتتمازج وترتفع لتشكل باقة من ورد، تتحرك فوق الرؤوس مثل غمامة ربيعية.

اقرأ أيضاً: نساء يطرزن الحنين بخيوط الأمل

بلاطات أرض الديار البيضاء، التي تعانق رائحة الياسمين والخزامى والنعناع، تخترقها بلاطات زهرية اللون، فتضفي على هندسة المكان سحرا شاميا أصيلا، البحرة في الوسط تعزف على أوتار الماء ألحانا دافئة، دافقة، ظلال أشجار النارنج والسفرجل ترتخي مثل ستائر تحجب الرؤية، فتضيع تحتها الخيالات بالتباسات الألوان والأحجام والأشكال، تهتز قليلا كلما هبت نسمة هواء، فينفلت الضوء صوبها من كل الجهات، ثم تعود وتلتئم بسرعة، كبقجة تنغلق على ما فيها من خبايا وهدايا.

إخترت لنفسي ركنا قصيا مقابل الفرقة الموسيقية، التي كان أعضاؤها يتحضرون للعزف، ثم ارتفع صوت المغني “سمرا يا سمرا”، وراحت الأجساد تتمايل يمنيا وشمالا، والأكف تصفق مزاحمة الآلات على الإيقاع. أنعم النظر في ما يجري حولي مذهولة، مأخوذة. فألجأ لأخفي ارتباكي، إلى علبة “الملبس” التي بجانبي، ألتقط منها الحبة تلو الأخرى، وأقذفها في فمي بحركة آلية، وأطحنها تحت أضراسي، فتحدث قرقعة جافية. وفي غمرة انسجامي بالغناء و”الملبس” تنبهت إلى أن المغني يرميني بنظرات لا أعرف معناها، كانت عيناه تتابعانني وتضحكان لي، وكأنها تدعوانني إلى عالم محظور على أمثالي ولوجه.

كانت أمي قد انتمت إلى جماعة “القبيسيات” الدعوية، التي اخترقت مجتمعنا النسوي الدمشقي ببطء وسرية ومباركة من سياسيين وتجار. أول خطوة قامت بها لإثبات إخلاصها للدعوة، هي طرد أبي من البيت، ثم تفرغت بعد ذلك لنا، أنا وأخواتي. نسفت كل البديهيات الدينية وحتى الإنسانية التي تربينا عليها، أو تلقفناها من بيئتنا البسيطة، واستبدلتها بتصورات وسلوكيات وطقوس غريبة، فرضت علينا صوم معظم أيامنا، حينا مستحبات، وحينا آخر واجبات، وألزمتنا بالحجاب الخاص ب”القبيسيات”. منديل أبيض منفوخ من الأمام ومعطف كحلي، وأجبرتنا على حضور الحلقات الدينية التي كانت تديرها الشيخة القبيسية في مسجد حينا.
شيختنا لم يكن يشغل بالها شيء أكثر من قضايا العفة والطهارة والعذرية وشيطنة الرجل، الحب والزواج بمعتقدها من الكبائر. كل محاضراتها كانت تنتهي بجلسة إرشاد اجتماعي، لحثنا على العزوف عن الزواج والابتعاد عن الجنس الآخر والاستغناء عن الأنوثة، مقابل التفرغ للعبادات ونشر الدعوة واستقطاب أكبر عدد من المريدات. لذلك لم أتجرأ يوما، أن أنظر إلى رجل أو أفكر بعلاقة عاطفية او حتى زواج.

اقرأ أيضاً: سارة الأمين والباقيات الصالحات…

أمضيت صباي، كما لو أن مجهرا كبيرا يجثم فوقي، يراقبني في صحوي ومنامي، يرافقني أينما ذهبت، يخترق رأسي وقلبي متى أراد، ويتسلل إلى نواياي وتمنياتي وأحلامي، يهددني بالفضيحة. لكن نظرات المغني، راودتني عن نفسي، أيقظت في صدري أحاسيس تواقة، كحمامة حبيسة تهم بالإفلات، قرعت في قلبي نواقيس اللهفة، سحبتني إلى حوافي وديان سحيقة عميقة، وتركتني هناك أتأرجح خائفة راغبة.

الرجل والمرأة
نهضت مسرعة أفتش عن ركن أختلي فيه بشيطاني، تقودني رغبة التمرد على قوانين الصرامة التي تحاصرني، كان هو على المقلب الآخر، يتابعني وينتظر إشارة مني. أنهى أغنيته، وضع عوده جانبا، واتجه صوبي، فللت منديلي على عجل، ورحت أبعثر شعري، فإذا بيديه تمسكان برأسي، وتديرانه صوبه. كاد قلبي يتوقف عن الخفقان، كما الأرض تحتي التي توقفت عن الدوران، تناهت إلى مسامعي أصوات تنهاني وأخرى تغريني، فلا أدري أأكمل أم أُحجم؟ أأهرب أم أمكث؟ لكنني صممت على التمسك باللحظة حتى آخرها. التصقت به والتصق بي، استحالت ذراعاي جناحين رقيقين، وذراعاه أيضا. قبلته وقبلني، كان طعم شفتيه أكثر حلاوة من كل حبات “الملبس” التي التهمتها لتوي.
ما أجمله، ما أجملني، وما أسعدني، ملاك الحب، الذي نفوه من الحلقة الدينية، حط في حضني، كان هناك ملائكة للموت والحساب والسيئات والحسنات، لا تعرف الشيخة ملاك الحب، من أين لها أن تعرفه؟ زعيقها، نظرتها الجامدة، وجهها القاسي لا يستدعي غير حضور الشياطين!

اقرأ أيضاً: أحذية نسائية …برسم العنف الزوجي

لملمت فعلتي وطرت خارجا، صارت الأزقة الضيقة تنفرج أمامي كأني أحمل عصا سحرية، وتحملني صوب فضاءات عالية واسعة، كدت ألمس الغيوم والنجوم، أمسك ذرات الهواء وجزيئات الضوء بيدي.
العالم مكان لطيف وجميل، وأنا سأعيش كل تفصيل فيه أكان شرا أم خيرا، وسأعبد لله من دون معاناة ولا قسوة، من دون خوف من التأنيب والجلد والقصاص، وسأخطئ كثيرا لأنه يحب التوابين، وكلما طمعت في سخائه ومغفرته، سأفرش سجادتي وأصلي باتجاه “القبلة”.

السابق
أميركا تختار «رحيل الشعب السوري» بدل «رحيل الأسد»
التالي
طلال الجردي… فنان مدخّن مع منع التدخين!