الشيوخ والشباب والحِراك

في نهاية حملة تظاهرات إسقاط النظام الطائفي اللبناني في نيسان 2011، عقدت المجموعات المنظِّمة لهذه التظاهرات إجتماعا في مسرح بيروت، لبحث الخطوات المقبلة؛ الإجتماع لم ينتهِ كما كان يرغب المنظِّمون، أو على الأقل أصحاب النوايا الطيبة من بينهم، بل انفضّ بتوتّر عال، بعدما ضاق مدير المسرح بهم وطلع على الخشبة وطرد المجتمعين بتهذيب رفيع. وكان هذا الإجتماع الأخير لهذه المجموعة، ومن بعده، انفضت التظاهرات وانكمشت وانطفأت، حتى غاب عنها الكلام تماماً. ولكن مآل التظاهرات ليس غرضي هنا، إنما أمر آخرٌ، لفت انتباهي، وأنا حاضرة في هذا الاجتماع ومراقِبة له: على خشبة المسرح، كانت هناك طاولة، وكراسي، تضم ستة شباب وشابات، ويجلس معهم شخص، بدا وكأن الطاولة لم تسعه، فاكتفى بالجلوس على طرفها.

هذا الشخص بالذات، كان كالغريب على الخشبة: كان يكبر عمر الشباب المشاركين بسنوات تبدو كثيرة، أو ربما عقود، ضخم الجسم، بشوارب عريضة، غير مرتاح في جلسته، كل ما يقوله مثل لحن نشاز، محفوظ وجاهز… سألت صديقي الذي إلى جانبي عمن يكون هذا الشخص الجالس على الطرف كأنه متطفل، أجاب انه “غيفارا”، الرفيق غيفارا، من الحزب اليساري القديم.

عند هذه النقطة، اتضح الأمر: “غيفارا” من اليساريين الشيوخ، القدماء، من النوع “المجنون”، الذي بقي مناضلا قاعدياً شريفاً، ولم يبلغ يوما القيادة، رغم نشاطيته الزائدة. وهذا أول نوع من الشيوخ يمكن أن تجده في تظاهرات الحِراك الأخير، وقد استعاد راية شبابه بفرحة الأطفال. النوع الثاني هو على النقيض تماماً: يساريون، قدماء أيضا، ربما أقدم من الرفيق غيفارا، ولكنهم أعلى منه رتبة، من الذين لا يباشرون كلامهم من دون مدخل من نوع “انا لي أربعين عاما في الساحة…”؛ من الذين “كانوا يوما ما…” (has been)؛ هؤلاء “نجحوا”، بالطريقة المعهودة، في اعتلاء مسرح الأدوار، وتقدموا إلى المتظاهرين، تلفزيونيا في غالبية الأحيان، بصفتهم “رموزاً”، يمارسون النصح الرشيد، ويتلون الوصفات المحفوظة نفسها، التي أنجحتهم، على ما يعتقدون، والتي لا يمكن ان يخرجوا عنها، وإلا فقدوا معنى “نجاحهم” السابق؛ “رموز” تحمل الكاميرا إليها، “تنزل” إلى التلفزيون عند أول استدعاء، تنقذه في ملء فراغاته، وتعتقد انها بذلك توسع من انتشار الحراك وتعزّزه. وإن كان التلفزيون غير متوفر، أو غير مرغوب، فهناك شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يدلي كل “رمز” بدلوه ونصائحه وارشاداته من أجل حراك سليم… ناجح… مؤثر الخ.

يساريون من الشيوخ، أيضاً، أقل وجاهة، تجاوزهم الحِراك، وهزّ ثوابتهم، فكانوا له بالمرصاد، يعيدون الدرس للمرة الألف، من أن الثورة لا تنجح إلا بكذا وكيت من الشروط… وهؤلاء من اليساريين الشيوخ الذين ارتبطوا بأحد مشاريع السلطة، ودخلوا في أحزابها، أو ناصروها، أو سخروا قلمهم من أجلها…

وجاء الحراك ليوقظهم من سباتهم، ويزعجهم أشد الازعاج، خصوصا انهم مضطرون أن يمرروا بعض الكلمات الدافئة بحقه. وهناك أخيراً الشيوخ الذين تفاعلوا يوما ما مع قضايا من حولهم، وهم الآن غارقون بأنفسهم، يراقبون كبَرهم، يترصّدون أمراضهم، يحدقون بالأيام السائلة، أمام ناظريهم، سيلان الأنهر الجارفة، يحزنون على أنفسهم، ويعشقون هذا الحزن، فلا يعيرون الحراك إهتماماً أصلاً إلا بقدر ما يشغل بالهم على أولادهم وأحفادهم. مناسبة هذا الكلام؟ النغمة التي طلعت مع بداية الحِراك، والتي مررت عبرها تعبيرات كثيرة في كراهية الشيوخ وتجاربهم الفاشلة؛ كلمات طلعت من الحراك من نوع “ضرورة قتل الأب” أو “التحرر من السلطة الأبوية”، من أجل صحة نفسية عالية، ضرورة التحرر من نقد “الخبراء”، أو “المخضرمين”، أو “الحريصين”، العائشين “خارج الزمان والمكان”، خصوصاً الحزبي منه، التأكيد تلو الآخر على “شبابية” الحراك، على جِدّة نبضه، حضور وجوهه النضرة، وشبه غياب وجوه الشيوخ، مع إبرازهم فقط للتدليل على وجود بعضهم ومشاركته في الحراك الخ.

والأرجح ان جواب الشيوخ على موقف الشباب لم يكن موفّقاً، لم يخترع جديداً: البارزون من بينهم، التواقون من بينهم إلى منابر الإعلام المرئي فعلوا ما يفعل عادة الزعماء الشيوخ، كرروا أنفسهم للمرة المليون، وهم في غاية الإطمئنان إلى هذا الدور. الشيوخ خيبوا أمل الشباب مرتين: مرة أولى بتجاربهم السابقة الفاشلة، ومرة ثانية باستعادة تعبيرات وإرشادات هي الإبنة الطبيعية لهذا الفشل. طبعاً، سوف يأتي من يقول بأن لا تنتظر شيئا من الشيوخ، الذين تصلّبت شرايينهم وتخشَّبت مفاصلهم، ونضبَ خزان الخيال عندهم. ولكن تجربة الحراك لم تنته بعد، ومكتوب لها الاستمرار، وما زال هناك من الوقت ليطلع علينا شيوخ حقيقيون يصفون تجربتهم الوجودية مع العمر، وعلاقتها بالسياسة، أو بالفعل السياسي، ليستكشفوا بعد ذلك، فقط بعد ذلك، الدور المحترم الذي يمكنهم أن يلعبوه في هذا الحِراك.

(المدن)

السابق
للمحاسبة معبر إلزامي نزع السلاح
التالي
السيناريو الكامل لطاولة الحوار الأولى