النظام الأخرس!

فجأة أصيب النظام اللبناني بالخرس، كل الخطاب الأيديولوجي والطائفي الذي صاحب التناقضات الحادة التي برزت خلال العقد الأخير بين أطرافه تلاشت وصارت هراء. نظام لا ينطق، مرتبك بزبالته التي ملأت الشوارع، ومذهول أمام كم الفضائح التي طفت على سطحه. نظام عاجز عن إخفاء عجزه المزمن عن إدارة البلاد، يتلطى خلف الصمت، ويحاول ترقيع فتوقه بحوار طرشان دعا إليه رئيس المجلس النيابي، سوف يعقد خلف جدار من الفصل الحديدي بين الناس وقاعة المجلس. حتى الصرخة التي أطلقها التيار العوني بدت مرتبكة، غطت شعاراتها الطائفية بشعارات عامة لم تستطع إخفاء الطبيعة الطائفية للحشد، وهي طبيعة فقدت صلاحيتها منذ ان أعلن مجموعة من الشباب ان الرائحة فاحت، في حملة «طلعت ريحتكم»، فتلقاها شباب «بدنا نحاسب» والنقابات وتحولت في مظاهرة 29 آب/أغسطس إلى بحر جماهيري، يمتد اليوم إلى كل المناطق اللبنانية.
خرس النظام ليس ناجما فقط عن طبيعته الطائفية التي لم تعد تعني سوى التبعية للخارج، وتحويل اتباع الطوائف إلى وقود لحروب تخوضها القوى الإقليمية، بل هو أيضا نتيجة واقع صارخ يقول بأن هذا النظام ليس سوى نظام حرب أهلية. أعادت الهيمنة الاستبدادية للنظام السوري تأويل اتفاق الطائف بحيث صار النظام محكوما بتناقضات أطرافه، التي لا حل لها سوى بالعودة إلى المرجعية السورية من جهة، وبتقسيم وظيفي للأدوار بين قوتيه الصاعدتين، الحريرية للاقتصاد و»حزب الله» للدور الإقليمي. ومع انهيار الانتداب السوري أعاد النظام انتاج نفسه عبر انقسام عمودي بين تحالفين كبيرين 14 و8 آذار، لم يستطع الانقسام المسيحي الذي توزع بين الطرفين إخفاء طبيعة هذا الانقسام المذهبية الصارخة، وتبعيته للمحورين السعودي والإيراني.
لكن الانقسام الطائفي والتبعية للقوى الإقليمية كان أيضا غطاء لتنظيم النهب وسرقة المال العام وتفليس الدولة وتحويل الاقتصاد إلى غابة وحشية لا ضوابط لها، يتصارع فيها حيتان اللصوصية ويسرحون على هواهم. تم تدمير الحركة النقابية، انهار التعليم العام وصارت الجامعات الخاصة دكاكين تنتشر في كل مكان، وأخرج الناس من السياسة.
انه نظام حرب أهلية نائمة، لكنها الفزاعة التي تجعل الناس عبيدا لزعماء الطوائف وأمراء الحرب وبارونات المصارف والأغنياء الجدد. لذا ترك النظام كل مآسي الحرب الأهلية معلّقة وبلا حلول، ونظّم بنيته على هذا الأساس: صراع مفتوح ذو طبيعة طائفية مخيفة، وحكم أعرج لا يستطيع حل أية مشكلة. والأنكى من ذلك أن الطبقة الحاكمة فقدت أي قدرة على تغطية عجزها، فالبطر أنهكها، والاستلشاق بالناس سيطر على عقلها. وهي بطبيعتها طبقة تابعة تنتظر من يحلّ مشاكلها بتسويات مؤقتة. وعندما صارت التسويات الإقليمية صعبة بسبب الصراع السعودي – الإيراني، صار لبنان بلا رئيس للجمهورية، وصارت الحكومة حلبة للتشبيح العاجز الذي يعيد انتاج السماجة.
تكفي تصريحات الزعماء والوزراء كي تقدم دليلا على الخرس، الكل من «حزب الله» إلى العونيين إلى «القوات» إلى «المستقبل» إلى «أمل» إلى «الكتائب» إلى «الحزب الاشتراكي» يقول ان الصرخة ضد الفساد محقة، لكن الفساد هو الآخرون. وينسى أنه الآخرون. يكفي ان نستمع إلى الوزيرين المشنوقين، وزير البيئة الذي تمت على يديه فضيحة محاصصة النفايات لا ينطق ولا يستقيل، ووزير الداخلية يتهم دولة «صغيرة» بتمويل الهبّة الشبابية الشعبية! أما أوساط «حزب الله» فتتهم الشباب وتسأل عن مصادر التمويل. ماذا لو سألنا وزير الداخلية عن تمويل دولة كبيرة لتياره؟ وماذا لو طرحنا على «حزب الله» وأبواقه الإعلامية سؤالا عن تمويلها الخارجي؟
لقد نجح شبان لبنان وشاباته في تحقيق ثلاثة إنجازات:
الإنجاز الأول للهبّة الشبابية الشعبية هو أنها فرضت على النظام أن يخرس. واللافت أن النظام استجاب لهذا المطلب لأنه فقد القدرة على الكلام. في اللحظة التي يتكلم فيها الناس بلغة مصالحهم ومطالبهم الاجتماعية تسقط اللغة الطائفية وتتهاوى.
الإنجاز الثاني هو كسر هيمنة القوى الطائفية وهيبتها. «كلّن يعني كلّن»، كما قالت «فرقة الراحل الكبير» بقيادة خالد صبيح في أغنيتها الرائعة. القوى الطائفية الحاكمة تخوض اليوم معركة إعادة وضع الناس في أقفاصها. الأقفاص تتخلخل، والهيمنة الطائفية بدأت تثبت عبثيتها وعداءها للشعب ومصالح جميع طبقاته المنتجة. معركة زعماء الطوائف اليوم، واستماتتهم لتشويه الأفق هي مع «شعوبهم»، لذا علينا ان ننتظر المزيد من التحركات التي تشبه مظاهرة العونيين.
الإنجاز الثالث هو إطلاق حرية التعبير والمبادرة والخيال. من احتلال وزارة البيئة إلى تعطيل عدادات الكورنيش إلى الاضراب عن الطعام إلى آخره… وهي حرية بدأت تتعمم في المناطق اللبنانية بأسرها.
هذه الإنجازات هي مجرد عتبة من أجل الوصول إلى الهدف الكبير وهو إسقاط نظام الحرب الأهلية. الهبة الشبابية – الشعبية لا تزال مشروعا في طور الولادة. وهي تخوض معركتها مع نظام يقوده ميليشيويون لن يستسلموا بسهولة. لذا، فإن المطلوب اليوم هو احداث فجوة في جدار هذا النظام، كي تبدأ عملية سقوطه الطويلة والبطيئة، وهي فجوة تبدأ بقتح ملفات الفساد الكبرى من النفايات إلى الكهرباء إلى الماء إلى الاملاك البحرية، كي تصل في النهاية إلى تطبيق الدستور عبر قانون انتخابي نسبي من خارج القيد الطائفي، يسمح ببلورة تحالف شعبي – ديموقراطي يؤسس للبديل الديموقراطي لنظام الحرب الأهلية وممارساته اللصوصية.
الحرب الأهلية بدأت في لبنان قبل ان تتعمم في المنطقة، والمرض الطائفي أعلن عن نفسه هنا قبل أن ينتشر على أيدي المستبدين والأصوليين في المشرق العربي. نهاية نظام الحرب الأهلية في لبنان سوف تفتح أفقا جديدا في المنطقة بأسرها.
إنه نضال طويل وصعب.
شكرا لشباب لبنان الذين أعادوا المعاني إلى الكلمات، والضوء إلى شوارع بيروت.
وإلى اللقاء، أيها الرفــيقات والرفــــاق، في الساحة مســـــاء غد الأربعاء، كي نقول ان حــــوار الطائفييــن واللصوص صار بلا معنى، وإن الحـــوار الحقيقي يجري في الشوارع والساحات.

(القدس العربي)

السابق
بريطانيا مستعدة لاستقبال 20 الف لاجىء سوري على خمس سنوات
التالي
تعرّف على منزل هيفاء وهبي