حكاية امرأة من تموز

لكل منا في تموز حكايته، ولنا في غير تموز حكاياتنا أيضا، عن تمسكنا بالحياة والموت وقوفا بوجه الحديد والنار والقتل والدمار، التي لا نسمح لأحد بأن يصادرها منا ويحرفها ويعبث بمعانيها ويقدمها هدايا مجانية إلى من لا نعرفه ولا يعرفنا.

أذكر أننا استيقظنا يوم الثاني عشر من تموز عام 2006 في مدينة النبطيّة على صوت رصاص يطلق في الهواء، ظننا حينها أن الرصاص هو ابتهاج بصدور نتائج الامتحانات الرسمية، سرعان ما شاع الخبر اليقين، “المقاومة أسرت جنديين اسرائيليين”، كانت فرحتنا لا توصف بهذا الانجاز النوعي الجديد للمقاومة، كل عملية للمقاومة كنا نعدها انتقاما لنا، مساء “راحت السكرة وإجت الفكرة”، وتبدل فرحنا النوعي إلى قلق رهيب، بدأت المنطقة من حولنا تفرغ تدريجيا، البناية التي نقطنها خلت من سكانها، حلق أغلب جيراننا بعيدا من الحي على جناح السرعة.

إقرأ أيضاً: في ذكرى حرب تموز: شيء كبير إنكسر
بيتي يتوسّط شقتين في الطبقة الثانية من البناية، ما يعني وفق حدس الأمهات العسكري، أنه ملجأ مناسب ليلا، بسطنا الفرش على طول الكوريدور ونمنا قعودا، كأن كل واحد منا كان بانتظار الكارثة.
الليلة الأولى، كانت هادئة قياسا على ما كابدناه في الليالي اللاحقة، فجرا أيقظنا دوي انفجار بعيد، الطائرات المغيرة أعدمت عائلة بأكملها في “الدوير”، ثم أكملت تقطيع الجسور وسد كل مخارج ومداخل النبطية، استشهدت امرأة من الحي المجاور مع خادمتها، على جسر الزهراني، أدركنا عندها أن الحرب ستطول، هرعنا إلى السوق اشترينا مونة تكفي لأيام صمود طويلة، حبوب ومعلبات وعدد مجنون من ربطات الخبز، نسينا في حمأة لهاثنا خلف مستلزمات الصمود أننا نفقد كل مقوماته، “الكوريدور” الذي تهتز فوقه سقوف الباطون مع كل غارة، لم يكن أكثر من ملجأ وهمي، وأمان افتراضي، لا يمكنه مقاومة الصواريخ التي تطوي البيوت على رؤوس ساكنيها برشاقة من يطوي صفحة في كتاب، أمضينا ثلاثة أيام في النبطية، لا نعرف الليل من النهار، السماء تصب حممها فوق رؤوسنا والأرض تحاصرنا بنيرانها.

حرب تموز
صباحا قرّرنا النزوح، طرنا بالسيارة نحو إحدى القرى، كانت الطائرات قد وصلت إليها قبلنا، فصلنا عن الغارات على مفرقها حوالي مئة متر، رأينا جثثا تتطاير في الهواء وتسقط في الحقول المجاورة، وأبنية تشتعل بنيران عظيمة، وأناسا يركضون في كل الاتجاهات، يحتمون بسماء تحوّلت إلى جحيم، نادت علينا امرأة هناك، “إنزلوا إلى المستودع”، أمضينا ليلتنا في مستودع الأدوات الصحية، احتمت معنا كلاب وقطط شاردة وجرذان، تشابهنا وإياها في إظهار الخوف وكتمانه، وتساوت غرائزنا في البحث عن النجاة والاحتماء.
عدنا أدراجنا إلى النبطية، لم نجد الدرج، تسلّقنا ما تبقى منه لنصل إلى البيت، الأبواب والشبابيك كلها مخلعة، نفضنا الغبار عن الفرش وتكومنا فوقها، القصف مسموع لكنه بعيد، تسلل النوم إلى أعيننا كلص حذر، بعد منتصف الليل، اقترب زئير الطائرات، كأنها تحوم في سقوف الغرف، أجساد الأولاد بدأت تتخشب، وتختفي أنفاسهم ، آذانهم تسترق السمع إلى همس الموت القادم على عجل، نحاول تخفيف وطأة الذعر، نطلق تعليقات مقتضبة، لئلا يفضحنا اصطكاك أسناننا إذا طال الكلام. غارة، غارتان، ثلاثة، انهار مبنى “الكابيتول” على آل حامد، الذي يبعد عنا رمية حجر، تطايرت من حولنا حجارة المنزل وأغراضه، اختنقنا برائحة البارود والغبار.
صباحا عاودنا النزوح، لا نعرف إلى أين، الأبنية المدمرة تسد الطرقات، غيرنا وجهة سيرنا عشرات المرات، اختبأنا عشرة أيام متواصلة في ملجأ تلو ملجأ ومستودع تلو آخر، في مداخل أبنية خالية، ومساجد وأقبية مستشفيات.
في اليوم العشرين، قرّرنا الرحيل إلى بيروت، اخترنا طريق إقليم التفاح وجهتنا نحو النجاة، جسر زبيدة أسفل عربصاليم مدمر بالكامل، مجرى النهر منفذنا الوحيد، ترجل الشبان من السيارات بينهم ابني اليافع، أزاحوا الصخور والحجارة الكبيرة جانبا، وصلوا بين الضفتين بغصون الأشجار وبعض الحجارة، فعبرت السيارات الهاربة، على كوع جرجوع مررنا بآثار مجزرة، سيارات متفحمة ودماء، في عين بوسوار انقضت علينا الطائرات، قسمت موكب السيارات إلى نصفين، من كان في المقدمة نجا، والآخرون حاصرتهم النيران، حرثت الطائرات الجبل فوقهم، فتدحرجت الصخور وسط الطريق وقطعتها، انتظرنا وصول ناجين عند مدخل جباع، لكن بلا جدوى، أكملنا باتجاه جزين، المشهد في ساحة جزين ذكرني بمجالس العزاء الحسينية، امرأة تصيح أين ابني؟ وأخرى تصيح أين أخي؟ وأطفال أضاعوا ذويهم، ودم وعطش وجزع.

هبط الأولاد من السيارة، تمددوا على الرصيف، أصابتهم نوبة بكاء هستيري، جاء مسعفون نقلونا إلى أقرب مركز طبي، أمضينا ليلتنا فيه، ثم غادرنا صباحا إلى بيروت.

إقرأ أيضاً: موقع إلكتروني لبناني يستدعي إسرائيل للحرب على لبنان
لكل منا في تموز حكايته، ولنا في غير تموز حكاياتنا أيضا، عن تمسكنا بالحياة والموت وقوفا بوجه الحديد والنار والقتل والدمار، التي لا نسمح لأحد بأن يصادرها منا ويحرفها ويعبث بمعانيها ويقدمها هدايا مجانية إلى من لا نعرفه ولا يعرفنا، حكاياتنا هذه من صنع أيدينا، نحن أبطالها الحقيقيون المجهولون، كتبنا أحداثها بالدم والدمع والإيمان، كنا ومازلنا جسد المقاومة وقلبها وروحها وساعدها الأيمن والأيسر، ولولا وقوفنا خلفها وأمامها وإلى جانبها لم يكتب لها النصر، نحن شعب المقاومة وقادتها و حراسها وحماتها، وليس المفاوضين الحذقين والسياسيين اللبقين والجنرالات أصحاب الأوسمة المزورة والبدلات العسكرية المهفهفة ومرتادي الصالونات الثقافية والندوات السياسية وسكان القصور والشاليهات والمحللين والطامحين والطامعين والكتبة والمرتزقة ولاعقي الكلام والوقت والمال، الذين لم تطأ أقدامهم أرض معركة، ولم يدوسوا يوما على خط نار، لم يسمعوا صوت صاروخ، لم ينهد فوقهم سقف ولم يخسروا يوما قطرة دماء أو حتى قطرة عرق. نحن أبطال تموز وما قبله وما قبل قبله، انتصرنا على عدوّنا بلحمنا ودمنا وبأسنا وبؤس أمهاتنا ويأس أطفالنا وصبرنا الجميل ولا جميل لأحد في ذلك.

السابق
بالفيديو.. اغتصاب قاصر في برج حمود
التالي
الطريق الى محاربة الارهاب سيمر من أي مكان