خامنئي يلغّم المفاوضات النووية الأمريكية- الإيرانية

في الربع ساعة الأخيرة الأخيرة كما يقال عادة، رمى المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي الخامئي حقيبة مليئة بالمتفجرات في غرفة المفاوضات النووية الأمريكية – الإيرانية، وذلك قبل أيام قليلة فقط من حلول الموعد النهائي المحدد سلفاً لحسم مصير الإتفاق النووي نهاية شهر يونيو الحالي. اذ أعلن علي الخامنئي في تصريحات نقلها التلفزيون الإيراني الاسبوع الماضي عن ما يمكن تسميته بـ “مانيفستو الخطوط الحمراء الإيرانية في المفاوضات النووية”، ثم أتبعها في 23  يونيو بسلسلة تغريدات له على تويتر يعلن فيها إنشاء 7 خطوط حمراء لا يمكن لإيران التنازل فيها.
وأمام هذه التطورات المتسارعة، أصدرت مجموعة من الخبراء والدبلوماسيين والحقوقيين والمسؤولين الرسميين السابقيين رفيعي المستوى ممن ينتمون الى الحزبين الجمهوري والديمقراطي بيانا عاما بتاريخ 24 يونيو ، حذّروا فيه من أنّ “الإتفاق بشكله الحالي لا يمنع إيران من الحصول على قدرة التسلّح النووي ولا يؤسس أيضا لإستراتيجية متكاملة للتعامل مع النظام الإيراني، فهو لا يتعامل مع مشكلة دعم إيران للإرهاب والمنظمات الإرهابية، ومشكلة هيمنتها الإقليمية أي تدخلاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومشكلة صواريخها الباليستيّة، أو مشكلة قمعها لشعبها”.
وتكمن أهمّية هذا البيان في أنّ مجموعة ممّن تبنوه هم من مساعدي أوباما السابقين ومن المسؤولين الذين عملوا معه و/أو  تابعوا المفاوضات النووية عن كثب وعلى رأسهم كل من دينيس روس مستشار  أوباما السابق في شؤون إيران والشرق الاوسط، دايفيد باتريوس المسؤول السابق لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) والقائد السابق للقيادة الأمريكية الوسطى وللقوات الامريكية في العراق، روبرت انهورن وهو عضو سابق في فريق التفاوض الامريكي مع إيران، جاري سامور مستشار أوباما للسياسة النووية والذي تحول فيما بعد الى رئيس لمجموعة “متحدون ضد إيران نووية” بالاضافة الى الجنرال المتقاعد جامس كارترايت.
ويشير البيان الى أنّ الولايات المتّحدة فضّلت التعامل مع الملف النووي كأولوية على امل أن يؤدي الإتفاق الى التأثير إيجابياً على سياسات إيران في هذه المجالات، وأنّ الإتفاق بصيغته الحالية ما لم يلبّ 5 شروط تتعلق بـ: اجراءات المراقبة والتفتيش والتحقق،البعد العسكري لبرنامج إيران النووي، أجهزة الطرد المركزي المتطورة، مسألة رفع العقوبات،  وأخيرا مسالة تداعيات خرق إيران للالتزامات الى جانب استراتيجية اقليمية حازمة للتعامل مع إيران، فان الإتفاق سيفشل في تلبية حتى معايير ادارة أوباما في ان يكون اتفاقا جيدا.
هذه التطورات تأتي مباشرة بعد الموقف الذي أعلنه المرشد الأعلى الخامنئي وبعد أيام أيضا على تبني مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) قانوناً يؤكد أن الإلغاء الكامل للعقوبات على إيران يجب أن يتم “فور بدء تطبيق الإتفاق “، وهو ما يتناقض طبعا مع ما شددت عليه الولايات المتّحدة من رفع تدريجي للعقوبات بناءً على مدى إلتزام إيران ببنود الإتفاق. كما يحظر القانون الذي أقرّه البرلمان الإيراني على الوكالة الدولية للطاقة الذرية “الوصول إلى كافة الوثائق العلمية والمواقع العسكرية أو الأمنية، والمواقع الحساسة غير النووية” وهو ما يعني عملياً تفريغ آلية التفتيش الواردة في نص الإتفاق الأمريكي الإيراني من مضمونها وبالتالي ترك الباب مفتوحاً لإمكانية حصول إيران على أسلحة نووية من خلال نشاط في مواقع عسكرية وهو ما سبق وأن مارسته إيران فعلاً سابقاً.
لا شك أنّ مثل هذه المعطيات المتسارعة الآن تطرح علامات استفهام حول مصير  إتفاق (JCOPA) الذي أعلن الطرفان الأمريكي والإيراني التوصل اليه في 2 أبريل/ نيسان 2015 في جنيف، وتطرح أيضاً علامات تعجّب ازاء مسار المفاوضات الحالية الجارية وإمكانية انهيارها مع ما يحمله ذلك من تداعيات إقليمية ودولية.
البيان لم يكن مفاجأة بحد ذاته، فكل المعطيات كانت ولا تزال تشير حتى الآن الى انّ إتّفاق (JCOPA)، لن يصمد رغم كم التنازلات الهائلة والخطيرة التي قدّمتها إدارة أوباما خلال مراحل التفاوض إلى الجانب الإيراني للتوصل الى الإتفاق والتي كنا قد أشرنا اليها بشكل مفصّل في مقال نشر  سابقا في الجزيرة نت تحت عنوان “أسطورة إبطاء أوباما لبرنامج إيران النووي”.
أضف الى ذلك أنّ إتفاق جنيف النووي حمل معه منذ بداية إعلانه وحتى هذه اللحظة تفسيرات مختلفة لمضمون ما جاء فيه، فالنسخة التي وزعها الامريكيون تختلف عن تلك التي وزعها الإيرانيون، وحتى في نقاط الإلتقاء بينهما قام كل طرف بتفسير ما جاء فيه بشكل مختلف بل متناقض عن الآخر. وتتضمن كلا النسختين الإيرانية والأمريكية ثغرات خطيرة جدا دفعت كثيراً من الخبراء والمحللين للقول انّ ما سيتم التوقيع عليه هو إتفاق سيء في مضمونه ونتائجه.
لكن الأهم هو أنّ البيان التحذيري الذي يضم أسماء مجموعة من كبار مستشاري أوباما السابقين والمسؤولين رفيعي المستوى جاء بعد ورود معلومات حسّاسة  تشير الى انّ إدارة أوباما إقترحت مؤخرا تقديم تنازلات إضافية خطيرة لإيران وذلك لتجاوز عقبة تفتيش المنشآت العسكرية والمنشآت غير المعلن عنها وموضوع ضرورة إستجابة طهران للأسئلة الموجهة لها من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذريّة حول ماضيها النووي للتأكد من انّه لم يكن هناك أي بعد عسكري له.
وتتضمن هذه التنازلات المقترحة التي أشارت اليها بعض التقارير  التراجع عن مطالبة إيران بتقديم جردة حساب لنشاطاتها النووية غير المعلن عنها سابقا والمتمثلة فيما يعرف بالبُعد العسكري لبرنامجها النووي في مقابل السماح للوكالة باجراء عمليات تفتيش رمزية لموقعين عسكريين وتوجيه بعض الأسئلة لبعض المسؤوليين العسكريين رفيعي المستوى على ان تصبح عمليات التفتيش فيما بعد للمنشأت المعلن عنها فقط. أمّا مواقع المنشأت النووية غير المعلن عنها أو المشتبه بها فسيتم مراقبتها فيما بعد عبر وسائل إستخباراتية، بالإضافة الى تزويد إيران بتكنولوجيا نووية متطورة حال موافقتها على الإتفاق.
على كل حال، لطالما إرتبطت دوافع الجانب الإيراني في المفاوضات دوماً بثلاثة معطيات أساسية هي:  كسب المزيد من الوقت، كسر العقوبات، والإستمرار في تطوير النشاط النووي. على الجانب الامريكي، أكّد أوباما أكثر من مرّة على أهميّة تحقيق إرث شخصي له يتمثل باعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وعلى أنّ توسيع الفترة الزمنية اللازمة لإيران للحصول على المواد اتي تمكنها من صناعة قنبلة نووية من بضعة أشهر الى سنة هو انجاز كبير يتيح ايضا المجال للرد على إيران حال خرقت الإتفاق.
لكن عملياً، وأمام الوضع الحالي، سيكون على إدارة أوباما أن تقرر إمّا القبول بشروط خامنئي، وهذا يعني إفراغ الإتفاق النووي من مضمونه الحقيقي وأنّ المرشد أثبت أنّ كلمته هي الأقوى، وبالتالي فسينعكس انتصاره هذا على الصعيد الداخلي والاقليمي والدولي، أو أن تقرر إدارة أوباما رفضها لهذه الشروط وبالتالي تنهار المفاوضات ولكن سيظلّ الخامنئي قادرا على تسويق انّه لم يقدم أي تنازلات وأن برنامجه النووي لا يزال يعمل وانّه حصل خلال فترة المفاوضات المباشرة العلنية التي إمتدت منذ العام 2013 على دفعات مالية واستطاع اختراق العقوبات والحصار المفروض عليه وانّه لم يتم فرض ايّة شروط عليه لتقييد أو تغيير سياساته الخارجية في المنطقة لاسيما في العراق وسوريا ولبنان وغيرها من البلدان.
في كلتا الحالتين ستظهر إيران وكأنها الرابحة. هذه المعطيات التي تضع أوباما في وضع حرج جدا تطرح تساؤلات عن الخيارات البديلة الموجودة لديه. بعد اعلان الخامنئي عن لائحة الخطوط الحمراء، نشرت مجلة “بوليتيكو” تقريرا في 24 يونيو الحالي تحت عنوان “الخطة (ب) للتعامل مع إيران” وخلاصته انّه اذا اتجهت المفاوضات النووية نهاية الشهر الى منحى سلبي أو سيء فان خيار أوباما الثاني سيكون جاهزا، وهو قصف المنشآت النووية الإيرانية. ومثلها قامت أيضا مجلة أيضا مجلة (ذا ناشينال انترست) تقريرا في نفس اليوم تناول نفس الموضوع.
طبعاً من الناحية النظرية سيكون هذا خيارا قائما، لكن لا اعتقد انّ أوباما سيلجأ اليه، خاصة أنه ليس مستعداً كما أظهرت المعطيات وأثبتت الوقائع دوما للتمسك بخطوطه الحمراء والدفاع عنها وإستخدام القوة لإثبات مصداقيته وإنشاء خطوط ردع جديدة. أضف إلى ذلك انّ أوباما استثمر الكثير من الوقت والمال والجهد، وتحدى خصومه في الداخل (السياسيين والكونغرس) وتحدى كذلك كل حلفائه في منطقة الشرق الاوسط من اجل الدفاع عن هذا الإتفاق، ولذلك فمن الصعب أن نتصوّر تخليه بسهولة عن الإتفاق مع إيران في اللحظة الاخيرة. ولذلك فقد يتم اللجوء ربما الى تمديد المهلة النهائية للإتفاق، وذلك للتفاوض من جديد على هذه المعطيات.
على الجانب الآخر من الصورة، هناك فرنسا المقرّبة من الدول الفاعلة في المنطقة أيضا والتي سبق لها وأن إتّخذت موقفا متشدداً من التساهل في التنازل لإيران. من المؤكد ان باريس لن تقبل بلائحة شروط الخامنئي، وهناك أيضا لاعبين اقليميين ليسوا على طاولة المفاوضات ولكن موقفهم مما يجري بين الإدارة الأمريكية والنظام الإيراني مهم جدا. التساهل مع لائحة مطالب الخامنئي سيؤكد لهذه الدول تصورها الذي يقول انّ “الإتفاق سيء وسيؤدي في كل الاحوال الى ولادة إيران نووية، وانّهم لا بد أن يحصلوا في النهاية على ما ستحصل عليه إيران في الإتفاق”.
في جميع الاحوال، تجاهل شروط بيان الخبراء الأمريكيين والتوصل إلى اتفاق سيء مع إيران سيؤدي الى تضخّم إيران وطموح الهيمنة والتوسع لديها لانه سيؤمّن لها اموالا طائلة (الدفعة الاولى حوالي 50 مليار دولار بالاضافة الى الاموال المجمدة قرابة 100 مليار ، ناهيك عن نتائج رفع العقوبات اقتصاديا) وسيتم صرف جزء من هذه الاموال بالتأكيد على دعم أذرع إيران الاقليمية وميليشياتها في المنطقة في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها من البلدان، و جزء آخر على تحديث قدراتها العسكرية التقليدية، وهذا سيؤدي الى زيادة الحريق المشتعل في المنطقة. كما انّ الإتفاق -وفق معطياته حتى الآن- لن يقيّد طهران لناحية قدراتها الصاروخية او لناحية ضرورة تغيير سياساتها العدائية والتخريبية ولن يحرمها قطعا من التحول الى قوة نووية (عبر الإلتزام بالإتفاق أو عبر خرقه سرا)، كما انّه قد يفتح ابوابا واسعة للتعاون الأمني الامريكي – الإيراني في عموم المنطقة وعلى حساب الدول الاخرى.
في المقابل، فان فشل المفاوضات الحالية، يعني أنّ احتمال توتر العلاقة بين الولايات المتّحدة وإيران سيزداد، وقد يتسارع الحديث عندها عن ضرورة قصف منشآتها النووية، وهذا يدفعنا للإعتقاد بأن دور إيران التخريبي في العالم العربي سيزداد بشكل سريع لأن اضرام المزيد من الحرائق المشتعلة وخلق المزيد من المشاكل داخل البلدان العربية التي تعتبرها إيران ساحتها الخلفيّة سيضمن لها إنشغال العالم هناك بعيداً عن الحدود الإيرانية وهذا يتضمن بالضرورة العراق وسوريا على وجه التحديد ولبنان واليمن، وذلك وفق القاعدة التي تقول بأنّ إيران تدافع عن نفسها خارج حدودها. ولا شك أنّ طهران ستسرع بموازاة ذلك من جهودها النووية في هذا السيناريو لانها تعتقد منذ البداية ان السلاح النووي هو أفضل ضمانة لمنع تغيير النظام الإيراني القائم او شن حرب على إيران، وهذا بدوره سيدفع دولاً إقليمية الى التفكير في الحصول على قدرات نووية، ونعود الى نفس الدائرة من جديد.

(الجزيرة.نت)

السابق
نالت 20.8/20 في البكالوريا الفرنسية…
التالي
الامن العام : توقيف 31 شخصاً لارتكابهم افعالاً جرمية