خاطف النشطاء المدنيين مستعرضاً جنده مقابل قصر الشعب

على بعد كيلومترات قليلة من قصر الشعب في دمشق، حيث يقيم بشار الأسد وعائلته، كان أمير الحرب السوري، قائد «جيش الإسلام» زهران علوش يستعرض 1700 مقاتل أنهوا دورة تدريب عسكــري في الـــغوطة، الضاحية الشرقية لدمشق.
وخلافاً لمشهد انهيار جيش النظام في إدلب وفي درعا وبعض مناطق حلب، لم يكن مشهد علوش مستعرضاً جنده في دمشق علامة على تصدع النظام. فأمير الحرب، وخاطف ناشطي الثورة المدنيين، كان جالساً على المنصة التي أرادها مسرحاً لصورته حاكماً، آمناً غدر النظام به. مشهده كان معداً لتظهير ديكتاتور جديد يشبه ديكتاتور قصر الشعب. لم يشعر أن الطائرات التي ترمي براميل متفجرة على من تبقى من سوريين في مدنهم وقراهم، يمكن أن تقتنص فرصة تجمّع 1700 مقاتل من المفترض أنهم معادون وغير بعيدين عن مطاراتها لتقتل ما يمكنها أن تقتل منهم، وهي إن أرادت فالمهمة كانت سهلة وواضحة.
حدث تجمع هذا العدد من المقاتلين ومن أمرائهم على نحو معلن ومكشوف على بعد أقل من 5 كيلومترات عن خطوط الجبهة، يعني بالمعنى العسكري إما خطأ هائلاً، وإما شعوراً بالأمان يفتقده كل الشعب السوري، يُستثنى منه بعض من أشباه بشار وزهران.
المشهد كان مذهلاً في دلالاته. ها هو زهران علوش على بعد نظرة عين عن قصر الشعب، ولا يهدد ساكنيه. هو نفسه قاصف الأحياء الدمشقية والملوح بالموت لمن تبقى من سكانها بالموت، واضح جلي، يمسك ميكروفوناً ويلقي خطاباً خالياً من أي عبارة تسيء للرئيس في قصره. وهو نفسه خاطف أعداء النظام الحقيقيين، رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي، أولئك الذين كانوا يوثّقون انتهاكات النظام لحظة اختطافهم من الغوطة التي يحكمها علوش، والتي احتشد جنده في ساحة فيها.
لا شيء أقوى دلالة من مشهد زهران في تلك اللحظة سوى الفيديو الذي حمل المشهد، والخطاب الذي ألقاه. فالمهمة تبدو واضحة في دمشق. إمارة صغيرة يحكمها أمير حرب صغير في خاصرة العاصمة، مهمتها امتصاص وموازنة الاحتقان ودفعه عن القصر. إشغال الأحياء الدمشقية بحروب صغرى دفعاً للحرب الكبرى التي يمكن أن تُهدد الرئيس. ففي فيديو زهران مستعرضاً جنده كنا أمام «رئيس» صغير في موازاة رئيس «كبير»، وكنا أمام رجل متعطش لأن يحكم من دون طموحات كبرى.
مشهده في الغوطة لم يكن امتداداً لمشاهد تداعي النظام في أطرافه. وهامشية الرجل ليست طرفية على كل حال، فهو أمير في دمشق. أمير صغير فيها، يؤدي لساكن القصر وظيفة محددة، ولا حاجة لقرائن صلبة تُثبت هذا الاعتقاد. الاستماع إلى خطبه يكفي. معرفة حقيقة أنه ممن أفرج عنهم النظام من سجن صيدنايا مع بدء أزمته تكفي أيضاً. أما استعراضه جنده على بعد كيلومترات قليلة من مكان إقامة الرئيس من دون أن تعترضه طائرات النظام ومدافعه القريبة جداً، فهذا ما لا يترك مجالاً للشك.
وزهران علوش، الشريك الصغير للنظام، أبدى في خطبته غضباً لا يمكن فهمه. الرجل غاضب فقط. لا وجهة لهذا الغضب، بل وظيفة لا يمكن كشفها. أحياناً يُعرج من بعيد على «الرافضة والمجوس»، وأحياناً أخرى يستعين بلسان سلفي ركيك وضعيف العبارة، مبقياً على الغضب عارياً من وظائفه ووجهته. صراخٌ الهدف منه شحن النفوس بما لا يعرف صاحبه بماذا يجب أن تُشحن حتى تؤدي المهمة. فمن الواضح أنه لـ»سبب ما» لا يريد شتم النظام، ثم إن العدو الصهيوني ليس موضوعاً في المتناول السوري هذه الأيام.
والحال أن خاطف الناشطين المعارضين وقاصف دمشق، السجين السابق للنظام، وطليقه وشريكه الآن، جزء من توازن أراده النظام في حربه التي يخوضها في دمشق، وما عاد بإمكانه أن يكون سلطة من دونها. فنضوب المصادر البشرية التي تغذى منها طوال أربع سنوات من حربه على السوريين يوجب إيجاد شركاء صغار. ظاهرة الأسرى الأفغان الذين كانوا يقاتلون في صفوفه في حلب وفي درعا تؤشر إلى أن لا جنود جدداً غير المرتزقة يقاتلون معه، وسرعة الانهيارات في مدن محافظة إدلب أيضاً. وبهذا المعنى فإن زهران علوش أهون الشرور، وهو خيار أصلي، البعث ينضح من وجهه، والنظام اختبر طموحاته في سجن صيدنايا، ولحيته المفتعلة تشبه إلى حد كبير لحى أمراء «داعش» ممن ضخوا أوكسجيناً في صدر النظام في أحلك أيامه.
لكن الأمير الصغير لن ينتظر سيده في قصر الشعب حتى ينقض على من يمكنه أن ينقض عليهم. فأمراء الحروب على ما اختبرناهم في أكثر من مكان، تتراوح طموحاتهم بين الامّحاء الكامل أمام السلطة والاستحواذ على السلطة المطلقة. البعث يربي ضباطه على ذلك، وضباطه يربون سجناءهم عليه أيضاً. من يعرفون رستم غزالة لاحظوا أنه كان يستعين بضعفه الداخلي والأصلي ليُمارس أقصى أشكال السلطة تعسفاً وقسوة. وكم يُشبه رستمُ زهرانَ، على رغم صعوبة تحديد الشبه.
لا شك أن علوش يطمح إلى ما لا تؤهله كفاءاته أن يصل إليه. لكن من قال إن من وصلوا قبله أهّلتهم كفاءاتهم؟ ثم إن قربه الجغرافي من قصر الشعب أفقده صوابه على ما يبدو، فهو في غضون أقل من أربع سنوات انتقل من سجين إسلامي في صيدنايا إلى أمير للغوطة، وعليه اليوم أن يكون قائداً مُلهَماً ومُلهِماً. ربما ذكره مخطوفوه من ثوار سورية المدنيين بأن ثمة من يفكر بمستقبل مختلف لسورية، لكن هؤلاء في سجنه الآن، ووحده ساكن القصر من يوحي إليه بأنه الشريك الصغير في حكم دمشق، وأن ذلك يُتيح له بأن يطمح أكثر.
وعلى هذا النحو انطلق زهران علوش أميراً صغيراً للغوطة مستعرضاً جنده بسلام وأمان، على أبواب دمشق وفي خدمة سجانه.
(الحياة)

السابق
مواجهة الخطاب المذهبي
التالي
تشييع علي عواض أحد عناصر حزب الله في بلدة الريحانية