ماذا يبقى لنا إن ساد التطرف؟

أنا أعيش في فضاء الحوار، ولا أريد أن أغادره لأنني أحسست بالنعمة، نعمة معرفة ذاتي ومعرفة الآخرين، نعمة معرفة جمال الاختلاف، وأدعو كل من أُحبّ إلى أن يعيش هذه النعمة، رغم كل المصاعب والعقبات.

نحن في لبنان جرّبنا الحوار في الحياة والمدرسة والدين، فعشنا وتقدّمنا وأنجزنا عُمراننا، وارتفعت منسوباتُ ثقافتنا وأدياننا، فتقدّم مستوى الالتزام في أوساطنا كمًّا ونوعًا، ومن دون أوهام، وبأعصاب باردة، وأفق إنساني ووطني. ثم جرّبنا القطيعة والحرب والموت المشترك لصالح من لا يريدون حياتنا، وتذرّعوا بأدياننا ومذاهبنا ليقتلونا بأيديهم وأيدي بعضنا بعضاً ويد إسرائيل. وليت أمر الموت المتبادل، بناء على الصمم المتبادل والقطيعة المتبادلة والجهل المتبادل، اقتصر على الصف الإسلامي مقابل الصف المسيحي. لكنه أكمل مشواره في الجريمة والموت وتشويه القيم وقتل الوطن والمواطن واغتيال المستقبل وتشويه الماضي. ثم امتدّ إلى الصف المسيحي المسيحي، والإسلامي الإسلامي. تقاتلت المذاهب وتقاتلت الأطراف داخل المذهب الواحد، ومارست عُنفاً أشد شراسة من أي عنف. إذاً فالحجة ساقطة، ولا بد من الاعتراف بالتعدد والاختلاف والقبول به، لا على مضض، بل كشرط لرؤية وحياة حضارية ووطنية متكاملة، ولا بد من التنازل سلماً، لأن الخسائر المترتبة على العنف والصراع أكبر بكثير ولا توفّر أحداً.
لقد أسقطنا دولتنا ووطننا وعُمراننا على رؤوسنا جميعاً والحوار في معناه الأول هو اكتشاف الذات في الآخر، ومعاونة الآخر على اكتشاف ذاته من دون إلغاء أي خصوصية، والدين إن لم يكن هذا فماذا يكون؟ ونصاب الوطنية هو الجامع الذي يؤكد الإيمان ولا يُلغيه. هذا الكلام له معنى إسلامي مسيحي، اختبرنا ثماره السائغة في الموقف المسكوني الإيجابي بعد الحادي عشر من أيلول في مقابل الاتجاه المسيحي المُتصهين وله معنى إسلامي إسلامي. ونحن مضطرون إلى تعميقه وتظهيره على ضوء ما يجري في مناطقنا، وعلى ضوء الوعيد الواضح بفتن طائفية قادمة إن لم نُعجّل في تحويل الحوار إلى مؤسسة تتراكم فيها أفكارنا وعلاقاتنا واصطفافاتنا للمستقبل، مُنطلقين من أن الخلافات الفكرية والفقهية بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين أنفسهم لا تغطي العنف المُتبادل في الماضي والحاضر والمستقبل، وإلاّ فإن التطرف هو الذي سوف يسود، ولا ندري ماذا يبقى لنا إذا ساد التطرف من الإسلامي والديني والوطني والمستقبل. إنه شأن مفكرينا وأهلنا الطيبين وشأن المجتمع والدولة حفظاً لكل منهما للآخر.
لا بد من أن نستعيد عقلنا وعلمنا وعشقنا للحقيقة ولاحق واستشعارنا لدورنا الحضاري وإرادتنا في التكافؤ والمشاركة، حتى لا نكون عالة على حضارتنا وحتى نغنيها بغنانا، ونعدّل صورتنا النمطية في مرآة ذهننا وذهن الآخر، لتمكينه من تعديل صورته النمطية عنّا وعن ذاته.

 

(من كتاب: على مسؤوليتي – صوت لبنان)

السابق
فليتشر: ليس هناك عصا دولية سحرية للحل الرئاسي
التالي
فتفت: لا تغيير في «الآلية» وسلام مُحق في انزعاجه