بين حرية جورج عبدالله وشارلي ايبدو

يميّز الغرب بين الحريات المصانة في بلاده "الحضارية" والحريات وحقوق الإنسان في الشرق. يطرح السؤال نفسه تلقائياً: لماذا مازال جورج ابراهيم عبدالله يقبع في سجون فرنسا رغم صدور حكم قضائي بالإفراج عنه؟ لماذا لم يتضامن العالم مع هؤلاء؟ هذه أمثلة تؤكّد بشاعة الجريمة المرتكبة، وبشاعة التمييز الغربي، بل والعربي أيضاً، بين جريمة وأخرى.

أثارت الجريمة التي ارتكبت بحق فناني صحيفة “شارلي ايبدو” الفرنسية في 7/1/2015 الشارعين العربي والإسلامي، أكثر بكثير ممّا يجري في العالم العربي نفسه، ربّما لشعور عام بارتباطها بأحداثه،  لكن ضجيجها طغى على ما يُرتكب كل لحظة في بلدان المنطقة، وشعر البعض بأن تداعياتها ستطال الجميع، وهو شعور سليم بالنظر إلى تاريخ العلاقات الهيمنية الغير سوية بين الغرب والشرق، والتي ليس أدل عليها من انعكاسات ما جرى بعد 11 أيلول 2001، عندما احتلت دول واستبيحت شعوب بحجة مكافحة “الإرهاب الإسلامي”.

سمحت العملية الإرهابية ضد صحيفة “شارلي ايبدو” الفرنسية لفتح الباب واسعاً للتأويلات والتحليلات، والتي تعطي للآخرين الحق في تصنيف الإسلام والمسلمين، بين إرهابي عنيف، وحضاري مسالم، وهي أعادت بطبيعة الحال تسليط الأضواء على موقف الغرب الملتبس من الإرهاب وسبل مكافحته دون الخوض في نقاش أسبابه.

يكيل الغرب رافع شعار “حرية الرأي والتعبير” بأكثر من مكيال، ففرنسا التي تتطرّف بمنع الحجاب والرموز الدينية، وتقيم الحد على كل متّهم بمعاداة السامية، تسمح بالسخرية من كل الأديان والمساس بكل المقدّسات. وهي نفسها التي استنفرت بعد الحادثة الإجرامية، في حين لم تُعر هي، أوي أي من الديموقراطيات الغربية أي اهتمام لما عاناه زملاء هؤلاء الضحايا في العالم العربي، كحادثة استهداف الفنان العالمي علي فرزات من قبل مخابرات النظام السوري الذين كسّروا له أصابعه بطريقة انتقامية، وهو المعبّر بريشته، الرافض دوماً للعنف في الرد على وجهة نظر. ويشهد التاريخ على أن يد الغدر الصهيونية طالت ناجي العلي في شوارع لندن تحت سمع العالم وبصره بصمت، دون أي ضجيج. وإذا ما كان الحديث عن الحريات المصانة في الغرب “الحضاري”، يطرح السؤال نفسه تلقائياً: لماذا مازال جورج ابراهيم عبدالله يقبع في سجون فرنسا رغم صدور حكم قضائي بالإفراج عنه؟ لماذا لم يتضامن العالم مع هؤلاء؟ هذه أمثلة تؤكّد بشاعة الجريمة المرتكبة، وبشاعة التمييز الغربي، بل والعربي أيضاً، بين جريمة وأخرى.

يشار في حادثة “شارلي ايبدو”، إلى أن المنفّذين والضحايا فرنسيون، ومسرح الجريمة فرنسي، فيما الغرب كلّه ضالع بما يجري في المنطقة، وأكثر من ذلك، تعترف فرنسا نفسها، أن فرنسيون كُثُر يقاتلون في صفوف “داعش”! ألا يعني ذلك أن المشكلة برمّتها مشكلة غربية تعاني شعوب العالم العربي من تداعياتها عليها؟ ثم ألا يعتبر حضور نتنياهو إلى جانب بعض الزعماء العرب للتضامن والتظاهر ضد “الإرهاب” في شوارع باريس مشهداً سوريالياً كاريكاتورياً يوازي في سخريته مواد الصحيفة التي دفع فنّانوها حياتهم ثمناً لها؟

تميّز الموقف الفرنسي من أحداث المنطقة في الفترة الأخيرة بالرأي الذي عبّر عنه الرئيس فرانسوا هولاند أكثر من مرّة: “الأسد لا يمكن أن يكون حليفاً في مكافحة الإرهاب .. فهو حليف الجهاديين”، كان هذا باجتماعه مع السفراء الفرنسيين في 28 آب 2014، ثم عاد وتكرّر التصريح ذاته بأشكال مختلفة أكثر من مرّة كان آخرها في حديث لإذاعة “انتر” قبل حادثة “شارلي ايبدو” بيوم واحد عندما قال “نحن الآن نحقق في وجود صلة بين داعش ونظام الأسد”. إذا ما رُبطت هذه التصريحات بالجريمة، فهذا يعني أن حادثة “شارلي ايبدو” جاءت لتغيّر هذه القناعة، وكأن مرتكبيها يريدون القول: غيّروا قناعاتكم، وراجعوا حساباتكم، النظام السوري يجب أن يبقى، لأنّه بالفعل يكافح الإرهاب، وأن عليكم الآن أن تتعاونوا معه قبل أن تلتهم نيران التطرّف الإسلامي مجتمعاتكم.

معلوم من جهة أخرى، أن فرنسا أكثر أعضاء التحالف الدولي تحمّساً للإطاحة بنظام الأسد، وقد بدا صوتها نافراً في ظل نية الآخرين بإنهاك جميع أطراف الصراع بإطالة أمد الكارثة الإنسانية التي تعانيها شعوب المنطقة، وأن استمرار الصراع بعد فقدان النظام السوري أسباب البقاء على ما كان، هو الوضع الأنسب له، ولهم، على الأقل لكسب الوقت الذي قد يستجلب متغيّراً ما يمنحه المزيد حظوظ البقاء ضعيفاً، ومن جهة أخرى لعدم قناعة الغرب بالبدائل المطروحة.

وحتى تستفيق فرنسا من صدمة الكارثة التي حاقت بها، والتي قد تستتبع بردود أفعال أخرى، يستمر مسلسل الإبادة والقتل الممنهج في العالم العربي بأكثر من طريقة: جسدياً لشعوب بأكملها، وهدماً للمقدّسات، وزعزعة للقناعات، وهدراً للحقوق، ونسفاً للتاريخ والحضارات، واستباحة للمحرّمات.

السابق
الغارديان: المملكة عدو حرية الرأي.. رائف بدوي يجلد بسبب أفكاره! 
التالي
الهموم المعيشية والقضايا الاجتماعية أساس البرامج الانتخابية الإسرائيلية