ذكريات مع سعيد عقل: أفول حلم الأمّة اللبنانية

سعيد عقل

تعرفت على سعيد عقل في آذار 1977 عندما تلقيت مخابرة هاتفية منه هنأني فيها، مع الموافقة والتأييد، على مقال نشرته لي مجلة “الصياد” في العاشر منه رداً على رأي للدكتور ادمون رباط كانت نشرته في عدد سابق وجزم فيه “أن الشعب اللبناني لا يؤلف أمة”.

وكنت ارتأيت في مقالي رداً على الدكتور رباط ان مصطلح “الامة” لم يعد مستقلاً من وجهة النظر القانونية – الدستورية عن مصطلح “الدولة”. فكل “دولة” تتألف من”أمة” وتؤلف “أمة”. وكل مجموعة بشرية تشكل وحدة سياسية مستقلة هي “أمة” مستقلة في “دولة” مستقلة. واستشهدت بالمادتين 23 و50 من الدستور والمادة 317 من قانون العقوبات. ونوهت بأن العروبة هي عنوان علاقة لبنان بالمجموعة العربية في اطار جامعة الدول العربية ومواثيقها.
بعد هذا اللقاء الهاتفي التقيت كثيراً بسعيد عقل وأصبحنا من الاصدقاء. فعلمت منه أنه خصم عنيد للطائفية السياسية اللبنانية وزعمائها ويؤمن بأهمية الهوية، التي كان يفضل ان يسميها “الماهية”، الواحدة والمشتركة بين اللبنانيين في تكوّن الامة اللبنانية وبأن هذه الماهية نشأت عن تاريخ قوي الجذور وذي محطات مميزة يعتز أبناؤها ويفتخرون بها، وهو نوه بهذا الاعتزاز وهذا الفخر واستنهضهما في قصائده وخطبه.
دقّ سعيد عقل باب السياسة اللبنانية الرسمية عبر ترشحه في العام 1965 للنيابة عن زحلة. فلم ينجح. وشارك شارل مالك وفؤاد البستاني في إنشاء “جبهة الحرية والانسان” ثم انسحب منها لاختلاف رؤيته جذرياً عن رؤية شريكيه فيها. وتأثر بأفكاره اتيان صقر (ابو ارز) الذي اسس حزب حراس الارز من دون أن يكون لسعيد دور فيه. وظل الودّ مفقوداً بين سعيد عقل وحزبي الكتائب والقوات اللبنانية حتى أنه كان من القلائل الذين عارضوا بقوة وعلناً ترشح بشير الجميل لرئاسة الجمهورية اللبنانية في العام 1982، مع أن سعيد عقل عبر عن ترحيبه بالإجتياح الاسرائيلي، الذي كان بشير الجميّل المتعاون الأول معه، وما أدى اليه من خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ومع أنهما، سعيد وبشير، كانا يريان في هذه المنظمة وفصائلها عدواً حقيقياً للبنان، وذلك عملاً بقاعدة ان عدو عدوي صديقي.
لكن طرح سعيد عقل القومي اللبناني (الذي شاركه فيه مفكرون لبنانيون كثيرون وعلى سبيل المثال لا الحصر كمال الحاج) القائم على مفهوم وحدة اللبنانيين والمساواة الكاملة فيما بينهم على أساس مواطني ولاطائفي اصطدم بالطبقة السياسية – الاقتصادية الحاكمة. فأصبح سعيد بذلك خصماً مشهوداً لها. وبدوره، ولأنه خاصم الطبقة السياسية الحاكمة وحزبي الكتائب والقوات اللبنانية في محاولة لتطبيق نهج سعيد عقل على طريقته الخاصة، تعرض اتيان صقر للملاحقة” أمام المحكمة العسكرية وحكم عليه غيابياً وهو لا يزال يعيش في المنفى.
عندما التقيت بسعيد عقل كنت مقتنعاً، ولا أزال، بفكرة قانونية – دستورية هي انه لا بد للدولة من أمة ولا بد للامة من دولة. فأكبر مثال على تحوّل الدولة الى أمة هو الولايات المتحدة الاميركية التي انبثقت دولتها المتحدة عن اعلان الاستقلال الذي أصدرته مجموعة من المستعمرات البريطانية وحرب التحرير التي خاضتها إثر ذلك مع بريطانيا والدستور الذي لحق الاستقلال الناجز وعبر عنه. ثم تكرست أمتها عند نهاية الحرب الاهلية فيها بإنتصار عسكري ساحق لدعاة الفيديرالية على دعاة الكونفيديرالية. اما عن تحول الامة الى دولة فهناك المثلان الكبيران: المانيا وايطاليا، وكل منهما كان يتألف من مجموعة دول في امة واحدة لم تتوحد سياسياً في دولة واحدة إلا في أواخر القرن التاسع عشر.
لكن، وفي لبنان، فإن الدولة نشأت عن خطط الضم والفرز التي توصلت اليها فرنسا وبريطانيا في إطار إتفاق سايكس بيكو وطُبقت غداة هزيمة السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. ففي 31 آب 1920 ضمّ الجنرال الفرنسي غورو إلى جبل لبنان، ذي النظام الخاص ضمن تلك السلطنة، ولاية بيروت، التي كانت تشتمل أيضاً على أقضية صيدا وصور ومرجعيون وقبل ذلك الجليل (بما فيه مدينة نابلس) الذي وقع في الحصة البريطانية، وولاية طرابلس، التي كانت تشتمل أيضاً على قضاء عكار، وأقضية البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا التي كانت تتبع ولاية دمشق. ثم وفي أول أيلول 1920 أنشأ غورو “لبنان الكبير” من أعمال الضم المذكورة معلناً، باسم فرنسا، إلى اللبنانيين، القدامى منهم والجدد، إنتماء الكيان السياسي الذي استولده إلى فينيقيا واليونان وروما مع ترسيخ صداقة عظيمة وقديمة مع فرنسا تحت مظلة “السلم الفرنسي”، في تجاهل سافر بل وتحدّ عدائي للمحيط العربي – الإسلامي.
فلم يكفِ الضابط الفرنسي مؤسس الدولة اللبنانية أنه سلخ هذه الدولة عن محيطها التاريخي بل بلغت جسارته أنه نادى لها بهوية هجينة تتناقض مع هويتها وتراثها الحقيقيين.
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم بقي السؤال مطروحاً على اللبنانيين : من أنتم؟ هل إنكم جزء من الشرق، أي من المحيط العربي – الإسلامي، أو من الغرب، أي من المجموعة الدولية، التي كانت فرنسا من قادتها والتي أضحت تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ضمنها دولة اسرائيل ؟
وقد زاد من صعوبة الرد على السؤال المتعلق بالخيار بين الشرق والغرب أنه لا يقبل الجواب بالنفي على الإحتمالين المطروحين معاً، لأن مثل هذا الجواب يعني الحياد. والحياد يعني، من جملة ما يعنيه، وضع حد للمواجهة المستمرة مع اسرائيل والناشئة في الأساس عن انتماء دولة لبنان إلى الشرق أي إلى المحيط العربي- الإسلامي برابطة غير قابلة للتفكك بل، وفي الحقيقة، تزداد لحمة وقوة يوماً بعد يوم.
والأسوأ من ذلك، فإن من دعاة الحياد من لا ينشد حياداً صافياً بين الإنتمائين بل حياداً ناقصاً ومشوباً بالإنحياز إلى الغرب وكل ما يمثله أو يحالفه، بما فيه اسرائيل، مما يتناقض مع الموقف الصلب المعادي لها في المحيط العربي – الإسلامي والذي ينشد إزالة دولتها من الوجود من جذورها لا مجرد العودة إلى خط العام 1967.
أما طرح سعيد عقل القومي اللبناني فإنه، وفي المسألة الدولية، يتناقض مع الخيار بين الشرق والغرب لأن سؤاله هو: أيها اللبنانيون هل أنتم جزء من أنفسكم؟ ويجيب عليه بالإيجاب. لكن هذه الإجابة تهدف إلى تأسيس دولة – أمة تتناقض وجودياً مع أصحاب المصالح السياسية – الإقتصادية الذين أثبتوا بسلوكهم منذ العام 1943 وحتى اليوم أنهم لا يريدون قيام دولة ولا نشوء أمة لأن تحقق الشروط البديهية والجوهرية لذلك، وفي طليعتها تثبيت حكم القانون المبني على مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات والمساءلة والمحاسبة، يؤدي إلى زوالهم.
لذلك أفل حلم الأمة اللبنانية الذي راود سعيد عقل وسواه. فليس في لبنان من أمة مستقلة عن سائر الأمم ويمكن أن تقوم على أساسها دولة. ولأن أصحاب المصالح السياسية والإقتصادية في الطبقة الحاكمة حالوا دون قيام حكم القانون المبني على مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات والمساءلة والمحاسبة، فليس في لبنان من دولة يمكن أن يؤلف مواطنوها أمة مستقلة عن سائر الأمم.
ولا بدّ أن سعيد عقل توصل في سنواته الأخيرة، وقبل أن أقعده كبر سنه والمرض، إلى اقتناع بأن الدولة التي لا تقوم على حكم القانون ولا تنتمي إلى أمة مصيرها التفكك والزوال. فحصر آماله بالله تعالى وتحول إلى أستاذ جامعي في اللاهوت.

http://newspaper.annahar.com/article

السابق
السعودية والكويت عازمتان على إعادة تطبيع العلاقات مع بشار الاسد
التالي
الحكومة اللبنانية و«أوراق القوّة»: نساء الخاطفين بين أيدينا