حسناً فعلتَ

حسناً فعلتَ إذ أغمضتَ عينيك. كما يتوارى جبل خلف الليل. ووردة في كتاب مراهقة. كما تتقاعد الأغاني في البال. والقلاع في دفاتر الزمن.

حسناً فعلت. آن لخيول المخيلة أن تهدأ. أتعبتَها. كلما سافرتَ بعيداً طالبتَها بما هو أبعد. ما أصعب الرقص معك. رجل لطمأنينته طعم الرياح، وآن لذلك الإزميل أن يستريح. أنهك صخور القاموس. يضرب. يحفر. يشذّب. يبحث عن البللور في عتمة السراديب. يقتلع الكلمات. يراودها، تتعرى. وتستحم. ثم تنصاع أميرة. يرسمها. ويزاوجها. ثم يوزعها عقوداً وقلائد.

سعيد عقل

كأن نهراً داهم تاريخنا. وتمدد على مدى قرن. وكأنه جاء من تلك الخزائن العتيقة. من هدير الأصوات العابرة للقرون وغبار الحقبات. جاء ببراعة الصيّاد، وأنامل الساحر. ينتشل السمك الغريب. يلونه. يعطيه أجنحة ويزوده عناوين الغيوم. ارتجفت الكلمات أمام صرامة عينيه. رهافة العاشق، وقسوة المهندس.

هذا الصبي المهجوس بالإبداع تسلَّل من مناجم الذهب. تقرأه فتشم رائحة بغداد يوم كانت بغداد. يتوافد الناس إلى نهرها وقصائدها. ويُمضون أعمارهم متحفزين للاحتفاء بالدرر وترجمة الكتب وفتح النوافذ. تقرأه فتنتابك الشام يوم كانت الشام. أمويون «ذكرهم في عروة الدهر وسام».

تقرأه فيستدرجك. تغرق فيه وتذهب. يذكّرك بكبار الجنرالات الذين استولوا على النار واجتازوا الحقب. بقلاع المتنبي تهزأ بتعاقب القرون. بمهارة أبي تمام. بمن سددوا الضربات وأصابوا. بمن شيّدوا عمارات عنيدة فضحت عجز الزلازل. تقرأه فتشعر بقامته الشاهقة. قامة الذين يقفون على المنعطفات فلا يشبه ما بعدهم ما قبلهم.

دخل الشاب القاموس بجبهته العالية. المبالغات ليست تهمة معيبة. الشعر نفسه ابن المبالغات. ابن المبالغة في الغوص والتنقيب. ابن الإفراط. والغرور ليس تهمة معيبة لـ «الجوهرجي» المبدع. لم يطرق التواضع نافذة المتنبي ولم يفتح له محمد مهدي الجواهري الباب.

حسناً فعلتَ يا صاحب الجبهة العالية. وأتمنى ألاّ تكون عرفتَ تماماً ما أصاب المدن التي مسحت الغبار عن تيجانها. أفضّل ألاّ أخبرك عما يجري في القدس «زهرة المدائن». إياك أن تسألني عن بغداد. تجاوز عدد القتلى عدد أشجار النخيل. وحاذر أن تستفسر عن دمشق وما اصاب دمشق.

كان وجودك محرجاً، وكنت مزعجاً. تريدنا أن نرتقي إلى زمن الإبداع والحب والشهامة والنبل. تريد لعواصمنا ان تضيء وتشارك في الورشة الإنسانية الكبرى. تريد مدننا نهراً من المبدعين. أحرجتنا وأزعجتنا. نحن لا نحب النوافذ. نحب الأنفاق والزنزانات. نحب القتل والجنازات. بددنا أوطاننا، ودولنا، وأطفالنا. نحن عشاق المناطق المقفلة والجزر المعتمة والخناجر التي لا تخطئ. كُتُبُنا خراب. وجامعاتنا خراب. نعشق المشعوذين الذين يلعبون بدمنا ويدمّرون مستقبلنا بعدما انتهكوا تاريخنا.

حسناً فعلتَ. اذهب خاتماً في أصابع القرن الذي استغرقته زيارتك. لنترك جانباً هفوةً من هنا وتسرّعاً من هناك. تخطئ الطيور الشاهقة حين تخوض في الوحل. اذهب الى خيمة الخالدين. يحسدك بعض من سبقك. يغار منك من كبر تحت جناحيك.

اذهب. بيروت اليوم غير بيروت التي عرفتَ او اشتهيت. دعنا نواصل الانحدار على وقع عصبياتنا العمياء وصفارات المهرّجين. تقاعد كما الأغنيات في البال والقلاع في دفاتر الزمن.

http://www.alhayat.com/Opinion/Ghassan-Charbel/5987119

السابق
فياض : دخلنا مرحلة افول داعش
التالي
نتنياهو القديم