سعيد عقل: الكاريزما الفاتنة

بغياب سعيد عقل لا يخسر الشعر وحده، بل تخسر الحياة نفسها الكثير من ألقها، وتخسر الأرض الكثير من هوائها النظيف، وينخفض منسوب الجمال، وتنكمش الجغرافيا اللبنانية والعربية على صقيعها وأوحالها في زمن دعاة التكفير وجلاوزة الفكر الاستئصالي، والجبروت الفارغ لأنظمة الاستبداد. بغياب سعيد عقل يتفقد كل واحد منا حياته ليعرف حجم الفراغ الذي خلاه وراءه. ويتفقد كل واحد ذاكرته ليدرك حجم الأعطاب التي قوضت أبهى ما في داخلها من الصور والرؤى، ويستسلم الجمال الذي احتفى به الشاعر أشد الاحتفاء إلى مصيره المجهول. فلا أحد سواه، باستثناء القلة النادرة، استطاع ان يحمله إلى أعراسه الأبهى، وأن يجعل الشعر من جهة أخرى قريناً للكرامة الإنسانية، حيث ارتفع بقصائده عن حضيض المديح والاستخذاء للحكام ووهب نفسه بالكامل للمثل التي حملها في ضميره ولغته وقلبه.
وفيما نودِّع سعيد عقل بكامل ثكلنا وألمنا وإحساسنا بالخسارة ستحتفل آلهات الشعر وشياطينه بتخففه من الأرضيِّ فيه، وانتقاله إلى العوالم التي انبثق عنها. إذ لطالما شعرنا ونحن نتابع بغبطة كثيرة، وحسد أقل، أننا أمام نسختين من سعيد عقل. إحداهما محكومة بحاجة إلى طين إلى التشكل على صورة رجل، والأخرى سماوته منعتقة من ربق الجسد، ومحلقة بخفة الطائر فوق فظاظة العالم المادي. ولعل الآلهة التي سرق منها النيران ستحتفي به الآن أشد احتفاء، ولن تنزل به العقوبة التي أنزلتها بسلفه برومينيوس. ذلك أن حجم ابتهاجها بلغته ومهارته وفرادة استعاراته سيفوق بكثير نقمتها عليه.
لقد نجح صاحب «رندلى» و»قدموس» عبر موهبته النادرة في القبض على جوهر الشعر، كما في القبض على ناصية الزمن والعمر المديد. فهو استطاع أن يقطع بنجاح عتبة الأعوام المئة. واستطاع الجسدي فيه أن يقارع الأبدي، ضارباً عرض الحائط بمقولة بيكاسو، الذي رأى بأن الطبيعة النباتية للرسامين تجعلهم يعمّرون طويلاً، بخلاف الشعراء الذين يبكّرون في الرحيل، محترقين بحطب أجسادهم المفرط في الاشتعال. وخلافاً لتوجس زهير بن أبي سلمى من الوطأة الثقيلة للعمر المفرط في تقدمه، فإن شيخوخة عقل بدت مفرطة في تأنقها ووسامتها البادية. كما لو أن عقل كان يسند ظهره إلى ربيع لا تنضب خصوبته، أو كما لو أن تلك الحمرة النبيلة في وجهه كانت تتغذى من بهاء الأيقونات في الكنائس، ومن غروب الشموس على ذكريات دائمة التورد. فبهذه القامة التي تسرج استقامتها كرمح صقيل بين سلسلتي جبال، وبهذا الشعر الذي ينشب خصلاته في جبهة الريح، وبهذا الصوت الذي تتنادى له أعمدة بعلبك الستة استطاع سعيد عقل أن يأسر سامعيه قبل قرائه، وأن يعيد للشعر مكانته في عصر النخاسة والكدية والاستخذاء.
كأن شعر سعيد عقل هو الشعر المحض. كأنه في تنقيطه وهندسته ونمنمته منوطٌ برد العالم إلى أصله والجمال إلى ينابيعه الأم. الشعر عنده بديل الحياة. أو هو اللغة الخالصة مصفَّاة من كل شائبة، ومدفوعة إلى الحدود القصوى من التكثيف. وهو لشدة تقطُّره يتقاطع مع السكون الخالص للحسن، على حد المتنبي، ويقف على خطوط التماس الفاصلة بين اللغة والصمت، بين الحضور والغياب، كما بين فوران العروق واحتباس الأنفاس. أما مشروعه الجمالي فيسعى إلى التماهي الكامل مع فكرته عن العالم، لا مع العالم كما هو قائم. كأن الوجودات المحسوسة عنده هي ظلال لوجودات أخرى قائمة في الظن أو الضمير أو المثل المطلقة. وهذه الرؤية المفرطة في حساسيتها تدفع الشاعر إلى استبدال الواقع باللغة نفسها، وبالرؤى التي تتكفل منفردة بخلق نماذجها الموازية في الوطن والمرأة والجمال والحب.
اللا زمني
ولأن شعره لا زمني بامتياز فهو يقع في قلب الحداثة، كتصور ومفهوم. وإن كان في آرائه النظرية يعمد إلى تسفيه طروحاتها ونماذجها المعروفة. فهو قد تخطى المفاهيم المدرسية المتداولة لتصنيفات الشعر، لتصبح قصيدته أبعد من راهنيتها في المناسبات وقصائد المراثي ومقطوعات الغزل والحب، ولتغدو مقذوفة في الأبدية، كما هو حال امرأته التي تقع على السرير «وقوع الهنيهة في المطلق». فللمرأة عنده حضور طيفي، ليس جماله الحسي إلا واحداً من تجلياته الهائمة في عراء الكتابة. إنها تهمُّ بأن تخطر في الوجود ولا تفعل، أو هي الوعد الدائم والغد المنشود الذي «يسبقنا الممات إليه غيلة»، على حد تعبيره. وفي المنازلة المستمرة بين الطهارة والإثم لا تتمثل امرأته في صورة زليخة أو مريم، بل في صورة المجدلية التي اتخذها عنواناً لأحد أعماله، والتي تتعارك مع شياطينها الماكرة عند قدمي المسيح.
أما لبنان عنده، فهو بدوره اختراع جمالي متمخض عن حاجة الأسطورة إلى التحقق. إنه جغرافيا الظنون والمبالغات والشغف بالمثال الأرضي، الذي وجد الشاعر انعكاساته المتحققة في نزوع الفينيقيين الجموح إلى ارتياد المجهول، وفي طموحات فخر الدين، كما في الحضور اليوتوبي لصوت فيروز وموسيقى الرحابنة. وحين سئل في أحد مجالسه الخاصة عن افتقار تصوره للبنان إلى التواضع، أجاب ضاحكاً: «إن دولة عظمى كالصين، تملك خيار التواضع لأنها تظل كبيرة مهما تواضعت. أما لبنان الأصغر من مدينة صينية، فليس أمامه إلا أن يتعملق أو يضمحل». وهكذا بدا لبنان الصغير جزءاً من جمهورية سعيد عقل المتخيلة، وبدا هو بدوره الجهة الخامسة من حدود لبنان.
وكما احتفى الشاعر بالحواس الخمس، على تبادل في الدلالات والمعاني، فقد احتفى بالموسيقى والجرس ونبرة الإيقاع، وتخيِّر للمناسبات والمراثي بحوراً تهز الوجدان وتزلزل القاعات، فيما تخير للغزل والتأمل في الحياة بحوراً صعبةً ومهملة، وعمل على ترويضها كما تروَّض الخيول في البراري. أما إنكاره لعروبته فلم يكن في تقديري ناجماً عن كراهية عنصرية، كما زعم البعض، وهو الذي أعطى العربية ما لم تعطه سوى الصفوة النادرة من المبدعين، ولكنه بعد أن ضاق ذرعاً باكتمال لغته ووصولها إلى طريق الجمال المسدود، حاول أن يكسرها احتجاجاً على عجزها عن مجاراته، كما فعل ميكال أنجلو بتمثاله العاجز عن النطق.
واليوم، وفي هذه الساعات السوداء، لا نفتقد في سعيد عقل شعره الريادي، الذي يقف في الوسط بين الكلاسيكية الجديدة والرمزية والذي يختتم بلا منافس عصر الكلاسيكيين الكبار، بل نفتقد معه القيم العالية التي جسدها بشخصه، والتي حملت معاني الفروسية والكرم والنبل والصفاء الداخلي والابتعاد عن المهاترات والترفع عن الضغائن. نفتقد تلك الجبهة المرفوعة والوسامة البادية في قسماته، وتلك القامة المنتصبة في وجه الأعاصير، والصوت الأجش على تهدج عاطفي، والكاريزما التي فتنت جميع من رأوه رؤية العين أو تابعوه في إطلالاته على الشاشات.
تحضرني في النهاية مقولة للشاعر الإنكليزي الشهير ت. س. إليوت مفادها «أن كل شاعر متفوق يميل إلى استهلاك الأرض التي يحرثها، بحيث لا تعطي بعده سوى محصول متضائل، بما يوجب أن تبقى في حالة راحة إلى زمن طويل». وإذ أستعير هذه المقولة من إليوت، أسأل نفسي دونما حاجة إلى إجابة: أليس هذا هو الحال مع سعيد عقل؟.

السابق
الجراح اتهم حزب الله بتعطيل المفاوضات بشأن إطلاق العسكريين
التالي
عبد الامير قبلان: الحوار واجب وطني لحل الازمات وممر الزامي لانجاز الاستحقاقات