الحساب والمهانة

عندما يقول كبار المسؤولين الأميركيين لك «لن أكون في المدينة عندما تصل»، فإنهم يقصدون: «لا يناسبني اللقاء معك». أحياناً يكون الرد أشد لطفاً: «صحيح أنني لن أكون في المدينة، فهيّا نرتب زيارتك لموعد آخر». في حالة وزير الدفاع موشي يعلون كانت هجرة شاملة من واشنطن. فجأة لا أحد هناك.

وحينما وصل يعلون كان يعلم أن واشنطن ليست بانتظاره. كل محاولاته ترتيب لقاءات حسب الأصول ـ عبر الملحق العسكري والسفارة الإسرائيلية – فشلت سلفاً. إذ إن سفيرنا في واشنطن، رون دريمير، ليس شخصية مقبولة في البيت الأبيض، كما أن الكونغرس في إجازة استعداداً للانتخابات.

وعندما ينبع التوتر بين الحكومة الإسرائيلية والبيت الأبيض من خلافات سياسية، أيديولوجية، يكون بالوسع الحفاظ ظاهرياً على شكل العلاقة. لكن عندما تنزلق القصة للبعد الشخصي، تتحول الطريقة والإهانات شخصية. ولم يكن بوسع يعلون ملاحظة ذلك في لقاءاته مع وزير الدفاع تشاك هايغل والسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، سمانثا باور. لقد لاحظ شدة الضغينة والإهانة في الجانب الأميركي تحديداً في لقاءاته غير الرسمية في واشنطن، خصوصاً مع كبار الصحافيين. هناك أوضحوا له حقيقة رأي واشنطن في تل أبيب. كما أن احتمال عدم استخدام أميركا لحق النقض ضد قرار يدعو لإنشاء دولة فلسطينية على حدود 67 ليس تهديداً نظرياً. في إسرائيل استوعبوا أن هذا خيار فعلي وهم يستعدّون له.

معركة على التلة

لقد ضجر البيت الأبيض من سماع كيف يسرب ديوان نتنياهو والسفارة الإسرائيلية المعلومات ضد الرئيس أوباما، ويتحدثون عنه باستخفاف ويحاولون التخريب على سياسة الإدارة. ويصل ضيوف رسميون وغير رسميين ـ أعضاء كونغرس، رجال إيباك وصحافيون، يسمعون من الإسرائيليين محاضرات عن رئيسهم الإشكالي، ويعودون ويتحدثون. وفي الأسابيع الأخيرة تفاقمت الأمور. وساء في محيط دريمر أو محيط نتنياهو تنطلق، بزعم الأميركيين، أصوات من قبيل «ابتداء من يوم الثلاثاء القريب سيكون الكونغرس تحت السيطرة التامة للجمهوريين، حينها سنعالج من تلة الكابيتول مواضيع مثل المبادرة السياسية والمفاوضات مع إيران».

فالعداء الشخصي الذي يكنّونه في رئاسة الحكومة الإسرائيلية للرئيس أوباما يعتبر في واشنطن موضع إجماع. وهو عداء متبادل، وحينما يصف أحد حول نتنياهو أوباما بـ«الغر، الجبان والمتردد» يصل الأمر دوماً للبيت الأبيض ويستدعي رداً. وفي محيط نتنياهو حالياً يقدرون أن تعبير «تشيكن شيت» في مقالة الصحافي جيفري غولدبرغ كان «زلة لسان مبكرة» جداً، لذلك سارع البيت الأبيض للتنكر لها. فقد قصد الأميركيون مهاجمة نتنياهو لكن فقط بعد الانتخابات النصفية، يوم الثلاثاء القريب.

ويرفضون في إسرائيل الوقوف في الزاوية تحت التوبيخ. ويسألون عندنا، كيف أن وزير الخارجية يحاول رشوة أبو مازن بتعهدات سياسية بعيدة المدى من أجل تأجيل ذهابه لمجلس الأمن إلى ما بعد انتخابات الكونغرس؟ ويسألون عندنا: ألا يمكن لقوة عظمى مثل أميركا أن تأمر أبو مازن بتأجيل هذه الخطوة؟

وقد دفع باهظاً وزير الدفاع، الذي لوزارة الخارجية الأميركية معه حساب منفصل على خلفية ما يصفونه بـ«تخريب مبادرة كيري للسلام»، أثناء زيارته لواشنطن أيضاً ثمن قربه من نتنياهو. كان بوسع يعلون الاكتفاء بأنه ليس أول وزير دفاع ينكل به في واشنطن. فقد علم وزير الدفاع الأميركي الجديد، كاسبر واينبرغر، العام 1981 وزير الدفاع أرييل شارون درساً لم ينسه حتى آخر أيامه. واينبرغر، الذي لم يرتح لسياسة شارون، اضطر بأوامر الرئيس ريغان للتوقيع على مذكرة تفاهم مع إسرائيل. لكنه حرص على عدم إجراء المراسم في وزارة الدفاع، وإنما في بناية ناشونال جيوغرافيك. وأدرك شارون الأمر واستخلص العبر، وكرئيس للحكومة كانت أبواب الإدارة مفتوحة أمامه. مشكوك في أن هذه النهاية السعيدة يمكنها أن تكرر نفسها مع النفوس القائمة حالياً.

وشارون عاش في عهد وقعت فيه الأزمات الأشد بين الجانبين، لكن كان هناك من يصل سراً لإسرائيل أو لواشنطن لتسليك المجاري. واليوم لا أحد كهذا. لا في الجانب الإسرائيلي ولا في الجانب الأميركي. المجاري مسدودة، ومياه الصرف تزداد ارتفاعاً.

خطة كلينتون بروح أوباما

ظنّ يعلون أن أمره مع وزير الخارجية كيري تمت تسويته. ومنذ نشوب الأزمة بين الاثنين في الصيف الماضي تحدثا مرات كثيرة في مواضيع فائقة الحساسية، أيضا أثناء حرب غزة. وبدا له أنه عندما تأسف إذا كان أحد قد تأذى من كلامه أن واشنطن اعتبرت ذلك اعتذاراً علنياً. لكنه أخطأ. واشنطن لم ترضَ. ولا عجب أن يعلون أحس أن الإدارة تعتبره مخرباً لتقدم المحادثات مع الفلسطينيين. في ديوان وزير الدفاع قناعة بأنه مع عرض مبادرة كيري، شنّت وزارة الخارجية الأميركية حملة إعلامية ضد يعلون لعرضه كعدو للتسوية. وأحياناً يكون مرضى ذهان الخوف محقين. ولكن كانت على يعلون مهمة تتعلق بالمال، لذلك أصر على الذهاب لواشنطن في هذا الوقت غير المناسب. فبعد أن أقرت ميزانية العام 2015 صار وزير الدفاع ملزما بلقاء نظيره الأميركي هايغل، لإجمال عمل أركاني أتمته طواقم عمل مشتركة حول الأعتدة العسكرية التي ستشترى من أميركا في إطار المساعدة الأمنية. وهنا لم تنتظر يعلون مفاجآت. فالإدارة التزمت بكل تعهداتها الأمنية لإسرائيل. وعلاوة على ذلك: كان إحساس حاشية الوزير أنه كلما كانت الخلافات السياسية أعمق، كان تمسك الأميركيين بالعلاقات الأمنية مع إسرائيل أقوى. ولم تلغ أي خطة مساعدة، عدا خطط طلبت إسرائيل تغييرها، مثل شراء مدرعة «نمر» بدلاً من الاستثمار في مروحية في 22.

كما صادقت الإدارة لإسرائيل على شراء منتدات على قاعدة أموال المساعدة للسنوات المقبلة، كنوع من قرض يسهل المشتريات. وهكذا بوسع إسرائيل أن تشتري ست طائرات إف 35 لإكمال سرب، يبدأ التزود به في نهاية 2016 وشراء سرب آخر من 25 طائرة ابتداء من 2019. وتتعلم طواقم أميركية في إسرائيل عبر عملية «الجرف الصامد»، وحتى في الشأن الإيراني كان هايغل ورجاله شفافين جدا. في العام 2017 ينتهي اتفاق التفاهم الذي بموجبه تقدم أميركا لإسرائيل مساعدة بقيمة 3,1 مليار دولار سنوياً. هناك تعهد شفوي من أوباما بتمديد هذا الاتفاق لعقد آخر. حتى الآن لم يتم التوقيع على شيء، وفي إسرائيل لا يهرعون لطلب ذلك منه. وهذه شهادة على منظومة العلاقات الخربة. يقولون في إسرائيل: يمكن الانتظار. إذ بوسع الرئيس المقبل الذي يتولى مهامه العام 2017 أن يوقع على الاتفاق.

الآن ينتظرون الانتحابات النصفية يوم الثلاثاء المقبل. واحتمال أن يخسر الرئيس الأغلبية الضئيلة التي يملكها في مجلس الشيوخ واقعي جداً. في وضع كهذا، البيت الأبيض لن يكون مؤهلا لتمرير إصلاحات داخلية لذلك سيسعى لتحقيق إنجازات في السياسة الخارجية. وهذا يضمن لإسرائيل عامين صعبين، حتى نهاية ولاية أوباما.

في المرحلة المباشرة تنتظرنا خطة سياسية يطبخها طاقم كيري للمفاوضات. وعلى الطاولة ثلاث خطط بديلة. الأولى إثارة موضوع الأمن والحدود ومحاولة مواصلة المباحثات من حيث توقفت في نيسان الفائت. الأميركيون جربوا هذا المسار أربع مرات وفشلوا، لذلك مشكوك في أن لديهم شهوة لتجريب ذلك للمرة الخامسة. والثانية، وضعت على الطاولة خطة كلينتون معدلة بروحية أوباما، والتي سيرفضها نصف الائتلاف في إسرائيل فيما لا يتعايش النصف الثاني مع رفضها. والثالثة، إدخال كل اللاعبين الإقليميين في الملعب على شاكلة درع سياسي من الجامعة العربية. لكن حينها ستكون قاعدة المفاوضات هي مبادرة السلام السعودية التي لا تقبل إسرائيل أجزاء أساسية منها. وحيثما نظرنا، الأميركيون سائرون مرة أخرى لكسر الرأس والمجابهة مع إسرائيل.

السابق
الهجوم على الشيعة في السعودية يحمل بصمات «القاعدة»
التالي
مواطن من بريتال نفى اي مداهمة لمنزله