سخرية التاريخ: «داعش» ينسف الخريطة لاستدراج التقسيم

ما تتعرّض له منطقة الشرق الأوسط والخليج هو نتيجة «سياسات خاطئة»… هكذا، ببساطة، أو بالأحرى بفجاجة. والأسوأ أن هذه السياسات تقود إلى حروب لا تعالج الأخطاء بل تضاعفها وتعقّدها، وبالتالي فإن نهايات الحروب ستفضي إلى نتائج مكرّسة للأخطاء، بدليل أن محاربة تنظيم «داعش» باتت المدخل الدولي – الإقليمي إلى حل الصراعات بإعادة رسم خرائط الدول. إن لم يكن ذلك قمة الاختلال فهو بالتأكيد ذروة السخرية من التاريخ.

تلك الذريعة – السياسات الخاطئة – جرى تراشقها بين خبراء حملوا بشكل رسمي أو شبه رسمي وجهات نظر الولايات المتحدة وروسيا، وتردّدت بصيغ شتّى في نقاشات «ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي» الذي نظمّه «مركز الإمارات للسياسات» (19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر)، وشكّل عرضاً نقدياً لمجمل استراتيجيات القوى الدولية الكبرى وأثرها في بلورة نظام إقليمي «جديد».

ثمة خلاصات تبقى في الأذهان: فالخطوة التي اعتبرت عظيمة وضرورية في حينها، ولا تزال الأهم في «إرث» باراك أوباما، هي نفسها «الخطأ» الذي أدى إلى فرقعة الكيان العراقي. ذاك أن الانسحاب الأميركي بنهاية 2011 كان لا بدّ منه لأنه كان مطلوباً بإلحاح في الولايات المتحدة، لأسباب كثيرة أهمها الأزمة الاقتصادية، لكنه تمّ بشروط نوري المالكي وإيران اللذين لم يتأخّرا في كشف مغزاها فور مغادرة الجندي الأميركي الأخير. إذ كان الأهمّ من الانسحاب أن يعرف الأميركيون ماذا يخلّفون وراءهم ويعترفوا به ويتأكّدوا من أن انسحابهم يتزامن مع حلّ أبرز الإشكالات التي ترتّبت عن الغزو والاحتلال. لم يفعلوا، على رغم أنهم نبّهوا مراراً إلى حتمية إجراء «مصالحة وطنية». ولعلهم لا يلامون على ما ارتكبه المالكي وإيران في ما بعد، إلا أن الوضع الحالي يبدو في كثير من ملامحه نتيجة لتقصيرهم ويشكّل «محاكمة» غير معلنة لـ «الخطأ» الذي اضطرّهم لـ «عودة» لم يرد أوباما الذهاب إليها. وأصبح مفهوماً أن «رفض القوات الأجنبية» على أرض العراق، كما تردّده طهران وبغداد اليوم، كأنه مقتبس من خطاب ما قبل الانسحاب، بل إنه يستبطن استياء إيران من عدم الطلب إليها لسدّ العجز الفادح في بنية الجيش العراقي.

بعدما أقرّ أوباما شخصياً بـ «سوء تقدير» لخطورة تنظيم «داعش»، لم تعد هناك أي حواجز أمام انكشاف «مسلسل الأخطاء» في النمط الذي اختارته إدارته لإدارة الأزمة السورية، في تعاملها مع النظام والمعارضة على السواء، وفي ركونها للألاعيب الروسية والإيرانية والإسرائيلية. لم يكن التلكؤ في تسليح «الجيش السوري الحر» هو المشكلة الوحيدة، بل تبيّن الآن أن كل أشكال التردّد التي أبدتها واشنطن استُغلِّت من جانب موسكو وقُرِأت على نحو إيجابي في دمشق وطهران، فضلاً عن أنها منعت قيام «تحالف دولي» حقيقي وفاعل لمواجهة بشار الأسد، فلو وُجد هذا التحالف حقاً لكان انعكس على «تماسك» النظام وأطلق ديناميّات فعلية لإيجاد «بدائل» من داخله. وعلى رغم أن القتال الذي خاضته المعارضة السورية ضد «داعش» وأحياناً ضد «جبهة النصرة» سلّط الضوء على استغلال الأسد لمسألة «الإرهاب»، استدراجاً واجتذاباً وتنسيقاً، وهو ما كان واضحاً للعيان، وبالأخص للأميركيين، إلا أنهم لم يعترفوا بالواقع إلا بعد اجتياح «داعش» المحافظات السنّية في العراق وتلقّيهم طلباً للمساعدة من المالكي، وهنا ظنّ الإيرانيون أن أميركا، إذا لبّت الطلب، ستضطر للتكيّف مع اللعبة الوحيدة الدائرة في المنطقة، لعبتهم، ما يرأب الصدع الذي أصاب «هلال» نفوذهم.

من الخلاصات أيضاً أن «السياسات الخاطئة» المؤذية للمنطقة وشعوبها لا تقتصر على الجانب الأميركي، ففي الحال السورية تحديداً لم تستطع روسيا وإيران (والصين) برهنة أن مساندتهما العمياء لنظام الأسد كانت سياسة جيدة لسورية، ولا للمنطقة، والأهم أنهما لم تثبتا ادعاءهما السعي إلى تقديم «بديل» أفضل من السياسات الأميركية. فهذه مدمّرة وتلك تنافسها في التدمير. وبالتالي فالقطبان الدوليان شكّلا معاً عنصراً محفّزاً على التطرف وصانعاً للإرهاب. وفيما هما يتراشقان تهماً بعدم الجدية في محاربة الإرهاب فإنهما يبحثان معاً عن استفادة مديدة من الإرهاب. فأقصى ما تطمح إليه أميركا هو «احتواء داعش» وليس «إنهاءه»، وليس في ذلك ما يعارض رغبات إيران المتموضعة لجني المكاسب من ضرب إرهاب مصنّف «سنّياً» في حين أن الإرهاب والتطرّف اللذين ترعاهما لم ينتجا سوى «مناضلين شيعة» في المصطلحات الغربية. أما روسيا فتتطلّع إلى «الحرب على داعش» كتغطية مثالية لإشغال المجتمع الدولي عن مغامرتها المستمرّة في أوكرانيا، من دون أن يمنعها ذلك من اجترار «ضرورة اللجوء إلى مجلس الأمن» الذي أقفلته، أو «ضرورة العمل (ضد الإرهاب) مع الحكومات الشرعية» تحديداً في سورية.

يبقى على رأس قمة الأخطاء رسوخ العجز الأميركي عن تحريك الوضع الفلسطيني – الإسرائيلي نحو سلام، قد يكون عجزاً أو «رغبة» أو حتى سياسة واعية ومبرمجة. فالمفاوضات السابقة استطاعت، على رغم إخفاقاتها، أن ترسم صورة لـ «سلام» ممكن، إلا أن ملامحها لا تنفكّ تبهت وتتناقص. وعندما قال جون كيري أخيراً أن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين «ضروري للانتصار على الإرهاب» كانت عبارته تاريخية بإخراجها مكنونات لا يُباح بها عادة في شرح السياسة الأميركية، غير أن تاريخيتها لا تعني فاعليتها، خصوصاً بعدما مسّت عصباً حسّاساً عند الإسرائيليين فاستشرسوا في الإجهاز عليها. لذلك تبقى الأخطاء والتلفيقات لا الحقائق هي المحرّكة لسياسات واشنطن، وينطبق ذلك على مقارباتها لمختلف القضايا، من رهن سياستها تجاه مصر بموقف انتهازي لمصلحة جماعة «الإخوان المسلمين»، إلى موقف مشابه في التعامل مع أزمة ليبيا، إلى أداء مشتبه به حيال أزمة البحرين، إلى سكوت مريب عما يجري في اليمن على رغم أن أميركا راعية أساسية للمرحلة الانتقالية. وما لا يقوله مسؤولو الإدارة الأميركية يمكن أن يفصح عنه مسؤولون سابقون صاروا خبراء في مراكز أبحاث: كأن يقرروا مثلاً أن الانقسامات العربية هي التي جعلت من إيران «قطباً إقليمياً»، أو ينطلقون – هكذا! – من فرضية أنهم أمام خواء وغياب عربيين ليسألوا: مع مَن يمكن أميركا أن تدير استراتيجيتها، ومع مَن تريدونها أن تعمل؟ والسؤال يضمر الجواب: ليس هناك سوى إيران… ذاك أنهم محوا مآخذهم طوال خمسة وثلاثين عاماً على إيران وبرمجوا ذاكرتهم على عنصر واحد فقط: البرنامج النووي، وعلى مصلحة واحدة: أمن إسرائيل.

تلك ليست أخطاء فحسب. إنها بالتأكيد اختلالات في النظام العالمي المبحر في تحوّلات صراعية غير واضحة المعالم، فتأخذه الأمواج حيناً إلى استقطابات جديدة (اتجاه أميركا نحو الشرق الأقصى) وتردّه حيناً آخر إلى رواسب «الحرب الباردة» (قضية أوكرانيا). لكن أخطاء سياساته المتحوّلة وإفرازاتها صبّت في منطقة عربية دخلت هي الأخرى في مرحلة تحوّل كشفت ضعف «الدول» بمؤسساتها الركيكة وتعويلها المزمن على العنف أداة للحكم، كما كشفت هشاشة المجتمعات التي استعادت سريعاً انقساماتها الطائفية والمذهبية، وتصاعد فيها دور «الفاعلين غير الدول» في نسخة «داعش» التي تبدو الأكثر قوةً وتبلوراً. وفي ذروة هذا الاختلال تمسّ الحاجة إلى حلول سياسية وتسويات تاريخية، لكن ثمة عاملَين سلبيَين يحولان دونها: دول عظمى بسياسات وضيعة، وأنظمة وتنظيمات إرهابية. ولعل المشترك الوحيد بين هذه وتلك أنها ضد الشعوب، فهي تتفق ضمناً بالأهداف على رغم التباين الظاهر في طبيعتها.

من الواضح أن التحوّلات العربية وقعت في أفخاخ الصراع الدولي واستخدامه للإرهاب أداة عقاب وابتزاز لمجمل المنطقة. قبل نحو مئة عام التقى نهج إنهاء الاستعمار مع توق الشعوب إلى الاستقلال وتجسيد الوطنيات فرُسمت الخرائط بهاجس إنشاء دول يمكن أن تكون لجميع مواطنيها. أما اليوم فستتولى تلك السياسات الخاطئة ترسيماً جديداً لكن هذه المرّة بتعاقد بين القوى الدولية والإقليمية على تنصيب الميليشيات الطائفية وإرضاء نوازع الإرهاب والانفصال على أساس أن «داعش» هو من نسف الخريطة السابقة.

http://www.alhayat.com/Opinion/Abdulwahaab-badrakhan/5363480

السابق
كيف استعادت الميثاقيّة وهجَها بين عامي 1992 و2014؟
التالي
من لم يره من قبل توقيع الملك محمد السادس