لبنان: حقيقةً، إلى أين؟

عندما تتآكل الدولة ولا يبقى منها شيءٌ إلا شبه سُلطة ضعيفة ومستضعفة من قبل الجماعات، يحدث ما نراهُ اليوم... لا رئيس للجمهورية نظراً لشهوة البعض إلى السلطة بطريقة هستيرية وشخصنة هذا الإستحقاق، مجلس نيابي مغتصِب للسلطة وممَدِّد لنفسه ولمرةٍ ثانية، وبلدٌ مستباحٌ من قبل الأخطار الخارجية والداخلية، والشعبُ متروك لله ومواجهة مصيره المعلوم القاتم وليس المجهول.

حين هزِء المدعو فيصل القاسم من الجيش اللبناني ثارت ثائرة الكثيرين وأولهم أنا وقمتُ شخصياً بحق الردّ عليه عبر الإعلام، من خلال توجيهي رسالة قاسية إليه مطالباً إياه بضرورة الإعتذار من الشعب اللبناني وجيشه على كلامه المستنكر والمرفوض وطالبتُ وقتها قيادة الجيش اللبناني والقضاء اللبناني بالتحرُّك ضده وأنا على إقتناع تام بما قمتُ به، ولكن اليوم أسأل نفسي وأسأل المؤتمنين على مصير الشعب اللبناني والمؤسسات والحاكمين برقاب العباد السؤال التالي: هل خطر فيصل القاسم على لبنان أكبر من خطر عدم إنتخاب رئيس للجمهورية وعدم إجراء إنتخابات نيابية حسب الدستور وعدم صون السلم الأهلي عبر إعادة عقلنة دور لبنان في الأزمة السورية؟

بالطبع لا. الحقيقة أننا نعيش حالة إنفصام رهيبة ونضحي بالوطن من أجل مصلحة أشخاص وجماعات ومشاريع خارجية وفئوية وإصطفافات في محاور إقليمية هدفها السيطرة ونتيجتها دمار المنطقة العربية بما فيها لبنان.

الناس باتت محقونة وتتحسَّس بالوعي وباللا وعي غياب الدولة وهيبتها وهذا بحد ذاته مأساة لأن ردة الفعل الطبيعية للناس في مثل هذه الحالات هي بداية التفكير بالأمن الذاتي والشخصي؛ وما أزمة إختطاف العسكريين وكيفية تحرك ذوويهم سوى الدليل القاطع على ما أقول. فبالرغم من أحقية مطلبهم إلا أن العسكري ومنذ إلتحاقه في المؤسسة العسكرية يصبحُ بعهدة الوطن ومشروع شهيد دائم ولا يعود بالتالي بعهدة ذويه؛ ولكن إحساس أهل الأسرى العسكريين بعدم جدوى دخول معركة إقليمية من المفترض أننا غير معنيين بها وعدم جدية الدولة في السعي لإطلاق سراح أبنائهم، أجبرهم على النزول إلى الشارع وقطع الطرقات وكل ذلك من أجل محاولة إنقاذ أبنائهم من ان يكونوا كبش فداء في معركة ربما وُرِّطَ بها لبنان من حيث يدري او لا يدري. هناك بعض الجهات إعتبرت ان العسكريين هم أسرى ويجب ان نعلنهم شهداء ونرفض اي نوع تفاوض ومقايضة عليهم والظاهر أن هذه الجهة تعلم أن تصفية بقية الأسرى لو تمَّ لا سمح الله سوف يشكل دافعاً تحريضياً للكثير من اللبنانيين من جميع الطوائف والمذاهب نظراً لأن العسكريين المختَطفين هم مزيج من مختلف نسيج الطوائف اللبنانية وبالتالي فإن ذلك سيزيد في إنخراط بقية الطوائف في الحرب ضد الجماعات المختطِفة للعسكريين. لكننا نستطيع القول أن وعي أهل العسكريين وبعض الساسة اللبنانيين لذلك حال دون تحقُّق هذا الشيء  وأجبر الحكومة اللبنانية على وضع هذا الملف على الطريق التفاوضي الصحيح. ما علاقة اللبنانيين إن بقي الرئيس السوري بشار الأسد في الحكم أم لا؟ ما مصلحة الشعب اللبناني بحرب النفوذ الدائرة بين روسيا والغرب، وبين الفرس والأتراك والدولة العبرية؟ ألم يكف لبنان ما دفعه من حرب أهلية وحروب متتالية ضد إسرائيل دافع من خلالها عن كل العرب.

حين تغيب الدولة يحدث أن يملأ الفراغات جماعات او أفراد تقتنص فرص الظهور الإعلامي والنزول إلى الساحات وتقديم العروض المرتجَلة. وما التمظهر الميليشيوي التي قاموا به في الماضي آل المقداد في الضاحية الجنوبية بعد إختطاف إبنهم في سوريا، والتحركات الشعبية التي يقوم بها بعض الأفراد على الأرض اليوم من إقتحام مكتب قناة الجزيرة في بيروت إستنكاراً لمواقف فيصل القاسم والإعتصام على طريق رومية دعماً للجيش او التجمهر والإعتصام على طريق ضهر البيدر دفاعاً عن إمرأة حاول أحد النواب صفعها وقضيتها اليوم في عهدة القضاء المختص، سوى الدليل الواضح على ما أقول بأن الدولة غائبة والناس يستشعرون الخطر ويحاولون التعبير او ملء الفراغ.

في ظل سقوط معالم الدولة ومرتكزاتها يبقى الجيش اللبناني المؤسسة الوطنية الوحيدة المتبقية التي تحمل تنوّع النسيج اللبناني والقادرة على عبور إنزلاقات الطوائف حيث يُعمّد الشهداء أخوةً في الدم… لكن وَجبَ علينا تحصين الجيش ودعمه عبر تأكيد الجميع على مبدأ حصرية السلاح من قِبَلِهِ وحده، ولا يستخفنَّ أحدٌ بفرار بعض العسكريين اللبنانيين من المؤسسة العسكرية وإنضمامهم الى التنظيمات المتطرفة، فبالبرغم من أنها حالات فردية محصورة لكنها مؤشّر عن تململ عند البعض من أن قرار الجيش اللبناني مسيطر عليه من قبل فئة حاكمة في لبنان تسعى لتوجيهه لضرب فئات أخرى مناهضة لها. مثال حيّ حصل معي شخصياً وأنا في طور التحضير لإطلاق أغنية وطنية داعمةً للجيش اللبناني أن قال لي أحدهم وهو صاحب الموقع الفني والإجتماعي المرموق ” أي جيش يا صديقي، ذاك الذي إستُعمِل لضرب السُنَّة في لبنان ولم يتحرك لحماية الناس في غزوة ٧ أيار ! ألا تريد أن تُضيف على أغنيتكَ الوطنية للجيش اللبناني مقطع يذكر أحد الرموز الدينية لفئة من اللبنانيين تسيطر على قرار الجيش اللبناني حالياً، لماذا قيل لنا وقتها أن عدم تدخل الجيش في ٧ أيار كان حفاظاً عليه من الإنقسام ولا يُقال الشيء عينه الآن عندما زُجَّ به في معركة إقليمية لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟”.

إن كل ذلك يُشير في إعتقادي وبموضوعية تامة أن الكثير من الللبنانيين وأنا أحدهم يعتبرون أن الحكمة كانت تقتضي بقفل الحدود منذ بداية الأزمة السورية أمام عبور المقاتلين إلى سوريا من أي جهة كانوا وتطبيق أكذوبة النأي بالنفس فعلاً لا قولاً والإبقاء على جهوزية الجيش اللبناني على الحدود للدفاع إذا تمّ التعدي على لبنان وعدم التورُّط بوحول الحرب الإقليمية المجنونة الدائرة في المنطقة وجعل لبنان كبش فداء لأحد. لسنا ملزمين بدفع فواتير الدم عن أحد، نصون حدودنا كما يفعل الأردن الشقيق ونُبعد نيران الحرب السورية عنا بكافة الوسائل ؛ لم تأخر إعلان قفل الحدود اللبنانية أمام تدفُّق اللاجئين السوريين إلى الأمس القريب بعد أن تجاوز عددهم عتبة المليونين لاجىء في بلد عدد سكانه ثلاثة ملايين؟ ألا يدرك المسؤولون اللبنانيون مع محبتنا الكاملة للاجئين السوريين ووقوفنا الإنساني المطلق إلى جانبهم في نكبتهم أن في ذلك خطراً أمنياً واقتصادياً وديموغرافياً على لبنان لا يستطيع تحمله. الكل يعلم أن نسبة كبيرة من الأخوة السوريين الموجودين في لبنان حالياً لا ينطبق عليهم صفة اللاجىء وقد قدموا الى لبنان من مناطق آمنة لا حرب فيها وذلك من أجل العمل في لبنان والإستفادة من التقديمات المالية التي تقدمها الأمم المتحدة للسوريين الموجودين في الدول المحيطة بسوريا.

طريق الإنتحار معلوم، وطريق الإنقاذ معلوم، وعلى القادة اللبنانيين الحاكمين أن يحددوا وجهتهم والتاريخ لن يرحم. لا يتشدّقن أحدٌ وينخرط في لعبة الأمم ويحاول القيام بالبطولات في لبنان ضد تنظيمات عجزت جيوش دول إقليمية في القضاء عليها. الخوف كل الخوف اذا تمكنت داعش لا سمح الله من تجاوز الحدود وإحتلال بعض القرى اللبنانية المتاخمة فإنها عندها ستنقلب صورة المعركة وبإعتقادي سوف يتفاجأ الكثير من اللبنانيين الذين يتكلمون اليوم عن التضامن اللبناني في وجه الإرهاب برؤية البعض من اللبنانيين يدعمون تلك الجماعات وينضمون إليها لأسبابٍ مختلفة. إن معركة بريتال بدّلت على ما يبدو في المشهد الميداني وأعطت مؤشراً قوياً على أن الحرب الدائرة في المنطقة كرٌّ وفرٌّ. فلا معركة القُصير، التي اعتبرها البعض إنجازاً نوعياً حينها، إستطاعت حسم كفة الغلبة وبدأنا نسمع اليوم تصاريح من بعض المسؤولين الحزبيين، الذين لطالما اعتقدوا أن الحسم العسكري في سوريا هو الحل، بأن التسوية السياسية هي الحل الوحيد للحرب الدائرة.

الحل واضح وهو يبدأ بتحصين الجبهة الداخلية للبنان عبر المباشرة الفورية بإنتخاب رئيس وسطي إنقاذي للجمهورية وتسليح الجيش وفتح باب التطوّع والتنسيق الكامل بين القيادة السياسية والعسكرية في أي معركة قادمة تفرضها التطورات الأمنية على الجيش واللبنانيين. نحن في صلب معركة الحفاظ على ما تبقى من الدولة اللبنانية، الحكمة تقتضي الوحدة والتضامن وتقديم المصلحة الوطنية العليا على مصلحة الأشخاص والجماعات وفك الارتباط بين الأفرقاء اللبنانيين ومشغليهم من الدول الإقليمية.

 

السابق
اللجنة الامنية الفلسطينية: القاء قنبلة قرب نقطة للجيش
التالي
نصرالله حذر من خطر سيطرة التيار التكفيري