قارئات العزاء بين الركاكة الشاملة والتجييش العاطفي التحريضي

كيف تتثقف النساء بمختلف مستوياتهنّ من منبع التاريخ؟ ومن هنّ اللواتي يتولين هذه المهمة الصعبة؟ وما هو مستواهنّ اللغوي؟ وهل يحقّ لمن تريد أن تدخل إلى نادي "قارئات العزاء" وأن تسقط الحاضر على السيرة الحسينية؟ فتحرّض سياسيا ودينيا وتستخفّ بعقول النسوة بركاكة شاملة، لغوية وقافية وسياسية واجتماعية وتاريخية...

تجتمع، عادة، النسوة للاستماع إلى مجلس العزاء في عاشوراء، أي خلال الأيام العشرة الاوائل من شهر محرم من كل عام، في الحسينيات أو في المنازل. وتكون إحدى النساء المتشحة بالسواد، على الدوام، المحرّك لبقيّة النسوة. وهي ينصبّ جلّ همّها على إبكاء الحاضرات في المجلس. وتضطرّ أحيانا الى استخدام بعض الصور الخيالية ذات المنحى العاطفي والتي تصوّر علاقة زينب بالعباس، او الزهراء بالحسين، او الحسين بأيتامه، او ليلى بابنها علي الأكبر. بمعنى ان ما تتناوله من صور لا يبتعد عن الرابط الأمومي العاطفي والفراق واللوعة.
وغالبا ما يُغمى على بعض النسوة ممن استشهد ابناؤهنّ في جنوب لبنان أثناء القتال في صفوف حزب الله ضدّ العدو الإسرائيلي، أو ممن قتلوا في سورية، وذلك جرّاء مبالغات هذه القارئة التي لا ترحم أمّا مسكينة فقدت ولدها، فتتخيل هذه الام ابنها كلما غالت القارئة بتناول تعلّق ليلى، زوجة الامام الحسين، بابنها علي الاكبر.
هذا التصوير التعبيري للاسف يُنقل بلغة غالبا ما تتضمّن ركاكة لغوية. لأنّ هذه المحرّكة (القارئة) للجو العاطفيّ أدت في فترة من تاريخ الجنوب، اي بعيد منتصف الثمانينات، الى تفعيل تأييد المقاومة ضد المحتل الاسرائيلي ودعم دورها الفعّال. فقد كان الشيعة، ولا زالوا، يردّدون “لسنا أفضل من أهل البيت حين واجهوا بني أميّة”. والنتيجة ظهرت فعلا في اندحار العدو من أرضنا.
لكن ما يؤسف أنّ جمهور النساء يتهاون مع هذه القارئة الضعيفة. فالنساء يتحدّثن فقط عن صوتها الجميل، متناسيات ركاكتها اللغوية المليئة بالأخطاء، وضعف المضمون، الذي غالبا ما يتنافى مع الحقيقة. إذ تحشد الصور الأسطورية والخيالية التي لا تمتّ إلى الواقع بصلة، مثل قولها إنّ السيدة الزهراء نزلت وظهرت على الحسين بُعيد استشهاده وتحدّثت معه. هذا بالإضافة الى الأعداد الهائلة من الجيوش التي قضى عليها ابا الفضل العبّاس.

هذا التعظيم للصور العاطفية مقابل انعدام نشر مفاهيم عقليّة، تشرح اسباب خروج الامام على الحاكم الظالم، تنتشر في مجالس النساء اكثر من مجالس الرجال، وكأن المجتمع يُصيّر الحسين كما يريد بعيدا عن الحقيقة التاريخية. وهذا الاستخدام العاطفي أوصل واقعة كربلاء الى إقرار بعض العلماء بالتطبير.
أذكر هنا أنّه في احدى المرات، وخلال احياء ذكرى اسبوع احد الموتى في الجنوب، اعترضت احدى قريبات الميت على الفصل بين النساء والرجال فيما يخص مجلس العزاء لأنّ الخطيب عند الرجال يتناول موضوعات سياسية، اما عند النساء فقد تتناول الخطيبة والقارئة مسائل اجتماعية وعظيّة لا يُحترم فيها عقول الحاضرات المثقفات، وكأن الخطاب موجه فقط للعموم. مما يثير الاشمئزاز من مستوى الهبوط الثقافي واللغوي والخطابي. فاضافة الى الموضوعات غير ذات القيمة تظهر بوضوح الاخطاء القواعدية الفادحة فالمجرور منصوب، والمرفوع مجرور، اضافة الى “استغباء” الناس في تدنيّ مستوى الخطاب.
ونجد النعرات المذهبية ظاهرة أيضا عند عدد من قارئات العزاء، وقد أخذت جرعة النعرات تزداد. إذ تستحضر القارئة كلّ مسائل الخلاف بين المسلمين، فلا يُتلى مجلس حسيني إلا وتمرّ القارئة على واقعة السقيفة، وكسر ضلع الزهراء وحزنها وسرّية مكان دفنها بسبب غضبها على من اغتصب الخلافة من الإمام علي.
ومن يجرؤ على الاعتراض يُتّهم بدينه أو بعدم ولائه لآل البيت، كما حصل مع الاعلامي نايف كرّيم الذي تعرّض لشتّى أنواع الهجمات بسبب اعتراض مشابه. وكما كان قد حصل في الماضي مع المرجع السيّد محسن الأمين وغيره ممّن دعوا ويدعون إلى الاصلاح في مضمون مجالس العزاء.
القضية الحسينية ليست ملكا لأشخاص ولا لمؤسسات رسمية. هي قضية إنسانية عالمية حقوقية تفرض على من يتولّى أمر نشر هذه القضية أن يكون على قدر المهمة فلا يُسمح لمن تبحث عن مورد عيش ان تلجأ الى قراءة المجالس بركاكة شاملة، لغوية وقافية وسياسية واجتماعية وتاريخية…

السابق
المشنوق: المعركة لن تقفل إلا بالحسم العسكري
التالي
«السمك» سبب بشلل 11 شخصا