أدونيس باليسوعية: هل ما زال لدى الله كلام جديد يقوله؟

أدونيس
حلّ الشاعر أدونيس ضيفاً على الجامعة اليسوعية، فاعتبر أنّ "العرب ينقسمون حول الماضي وليس المستقبل"، وانطلق في قراءته الواقع العربي من أنّ "أن مجتمعاً لا يُبيح عدم التَّديُّن، يمكن أن يكون متديّناً. والتأويل السّائد للوحي الإسلامي، يقوم على أربعة أشياء: الشيء الأول هو أن نبيّ المسلمين أو النبيّ الإسلامي، خاتم الأنبياء... وإذا ذهبنا قليلاً في هذا المنطق، سنرى أن الله نفسه لم يعد لديه شيء يقوله، لأنّه قال آخر كلامه لآخر أنبيائه"! وكان للعلامة السيد محمد حسن الأمين ردّ على هذا الكلام...

حوار شامل بين أدونيس وجمهور متنوّع ومتابع له في الجامعة اليسوعية مساء الخميس الفائت. مهَّد أدونيس للحوار بإشارات عدّة، فربط بداية “بين الشّعر والفِكر”، قائلا إنّهما وحدة لا تتجزّأ”. مقدّما اقتراح قراءة الواقع العربي الثقافي الحالي من أمرين: “الأوَّل هو أن الثقافة السائدة، تقوم على دعامتين: نقليّة، دينية، استعادية، من جهة، ونقلية حضارية استعارية من جهة ثانية. وبوصف هذه الثقافة نقلية، فهي من الجهة الوطنية ثقافة سلطة، أي أنّها ثقافة وظيفية والعلاقات التي تقيمها. ليست علاقات بحثٍ وحوار أو انفتاح على المعرفة، بل علاقات استتباع. وهي من الجهة الاستهلاكية الحداثية، تبعيّة أيضاً، شبه كاملة للغرب. هذا هو الأمر الأوّل. الأمر الثاني: للمرة الأولى، ينقسم ما نسميه الشعب، ينقسم العرب، ماضويّاً لا مستقبلياً. لا تنقسم الجماعات الإسلامية العربية، أو الجماهير العربية، إلى رجعيّة وتقدّمية على أساس التنافس في التخطيط للمستقبل، وإنما تنقسم على أساس التنافس في الارتباط بالماضي، بين إسلام يسمّونه أو يوصف بالاعتدال، وآخر يوصف بالتطرّف. وهو انقسام جماعات تتناحر وتتآكل، وتتنافس في التدمير والانحلال”.
وبرأي أدونيس، الذي عاب عليه المثقفون الليبراليون عدم مناصرته الثورة السورية، تلك التي توجّس من “خروجها من الجوامع”، وانتهت إلى تفريخ “داعش” كاقتراح شبه وحيد لمستقبل سورية، يرى أنّ “هذا الواقع الثقافي ليس مجرّد ظاهرة، وإنما يقوم على نظرة وحدانيّة للإنسان والعالم، وأنا أتحدث هنا، عن ثقافتي الإسلامية. ففي تأويل “الوحي الإسلامي”، أنا أحترم جميع الأديان، وجميع المتديِّنين، وأحترم، أيضاً، جميع اللاَّمتديّنين. لا أعتقد أن مجتمعاً لا يُبيح عدم التَّديُّن، يمكن أن يكون متديّناً. وإذاً، هذا التأويل السّائد للوحي الإسلامي، يقوم على أربعة أشياء: الشيء الأول هو أن نبيّ المسلمين أو النبيّ الإسلامي، خاتم الأنبياء. وثانياً: هذه الحقائق التي بلّغها هذا النبيّ، هي آخر الحقائق، وكما أنه لن يكون هناك أيُّ نبيّ آخر، فليست هناك أيّة حقائق أخرى. وثالثاً: الإنسان ليس له أن يغيِّر، أو يبدّل، أو يضيف، في أقصى حال، له أن يفسِّر، ويشرح ويؤوِّل. وإذن، أساسيّاً، يجب أن يطيع ويطبّق. والآخر، مشكلة معقّدة، بالنسبة إلى هذه الأمور الثلاثة، الآخر، عمقيّاً، غير موجود، إلاّ بوصفه منفيّاً أو منبوذاً. وإذا ذهبنا قليلاً في هذا المنطق، سنرى أن الله نفسه لم يعد لديه شيء يقوله، لأنّه قال آخر كلامه لآخر أنبيائه. يضاف إلى هذا كله، أن البُعد المسيحيّ الخلاّق، شبه غائب، في هذا الواقع العربي. والمسيحيّ اليوم هو مجرّد بيت يُنهبُ، أو كنيسة تُحرق أو امرأة تسبَى، أو فرد يُقتل ويُشَرَّد. فالمسيحيّة بوصفها مكوِّناً حضاريّاً أساسيّاً غائبةٌ في هذا الانقسام الذي أشرتُ إليه”.
أدونيس أضاف مشرّحا الواقع العربي: “هكذا، نعيش، نحن المسلمين العرب، نعيش في عالم دينيّ بلا ثقافة. وفي ثقافة تقوم، في جانبها الحيويّ، على التأثّر بالثقافة الغربيّة الأميركية الأوروبية، إننا نعيش في ذروة إستلابيّة يحكمها العنف الوحشيّ قد لا يكون لها مثيل في التاريخ. لسنا أنفسنا ولسنا غيرنا، نحن في الفراغ، في نقطة الصّفر، كأننا بحيرة ضخمة، مليئة بالسّمك، لكن هذه البحيرة تجفّ شيئاً فشيئاً، وإذا نظرنا إليها، لا نرى إلاّ الأسماك الميّتة أو المحتضرة تتراكم بعضها فوق بعض، أو يلتهم بعضها بعضاً، لا نستطيع أن نبحث كيف يغيِّرُ الشِّعر، إذا لم يكن في وعينا ولا وعينا، هذا الواقع كله… بأن الشِّعر جزءٌ من هذا الواقع، وجزء من الثقافة. وهو واقع،يفرض علينا استناداً إلى النتاج الشِّعري الراهن، أن نطرح من جديد، ما معنى الشِّعر؟ ما الشِّعر اليوم. أنا شخصياً لم أعد أعرف ما الشِّعر!؟ يمكن بمعنى من المعاني أن يكون هذا جيّداً وجميلاً، لأن الشِّعر مما لا يحدّد. مثل الحبّ، إذا توصّلنا إلى تحديد للحُبّ، سنقتله، سيموت؛ لكن، السياق الذي نتحدث فيه، لم يعد هناك أي معنى للشعر. هذا هو سؤالي الأوّل”.
وتابع: “وإذاً سيكون البحث، بحثاً نظرياً، نظرياً، لن تكون له أيّة علاقة مباشرة بالواقع، وسأستند في هذه الخلاصة الصغيرة في معنى تغيير الشِّعر إلى المبادئ الأساسية، في معزل عن هذا الواقع الذي أشرتُ إليه، إلاَّ في هذا الشيء الذي أُحبّ أن أكون فيه حادّاً، لا معنى لأيّ شعر يندرج في سياق الثقافة القائمة، كما وصفتُها، لا معنى له، ولا قيمة له على الإطلاق. فهل هناك شعر عربيّ لا يندرج في هذه الثقافة؟ هذا هو، أيضاً، سؤالي الأساسي”.
كيف يُغيِّر الشِّعر؟ طبعاً تعرفون نظريات الالتزام للشعر” يغيّر الواقع، يغيّر الحياة، كلُّ هذا مجرّد أحلام جميلة، لكن لا مكان لها؟ وإذا درستم أو أعدتم قراءة الشّعر الذي سميّناه ملتزماً، سترون أنه لم يفعل شيئاً، وسترون أنه فقد، في معظمه، قيمته، كأنّه كان غيمة عابرة، بل على العكس، الشعراء الذين أرادوا أن يحدثوا هذه الثورة، مثلاً، داخل الإيديولوجيات والالتزامات، حوربوا…”.
وهنا استشهد أدونيس بأمثلة شعرية عدّة ليقول إن الشعر يغيّر: “نعم يغير لكن كيف؟ يغيِّر أولاً: في العلاقات القائمة بين الكلمة والشيء، الشاعر يفرغ، دائماً، الكلمة من محتواها القديم، ويجرّدها من علاقاتها القديمة، وينشء علاقة حديثة، كما رأينا في هذه الأمثلة، بين الكلمة والشيء، هذه العلاقة بين الكلمة والشيء، تؤدّي إلى علاقة جديدة، بين الكلمة والكلمة، وتؤدّي إلى علاقة ثالثة بين الإنسان والكلمة والشيء، وتؤدّي إلى علاقة رابعة، هي علاقة الوعي. يتغيّر الوعي الجمالي، عند الإنسان، ويتغيّر الوعي الفردي إجمالاً، (الوعي الفكري) ضمن هذه العلاقات الشعر يغيّر. وليس كل الشعراء. كل من يندرج في الثقافة السائدة، هو في موقع المتغيِّر، وليس في موقع المغيِّر، هذا باختصار ما أقوله”.
وقد ردّ أدونيس على الأسئلة والمداخلات في هذه الندوة بكثير من الشفافية والصراحة والوضوح.
وقدَّم العلاّمة السيد محمد حسن الأمين مداخلة، قال فيها: اختلفُ بدرجة ما مع صديقي أدونيس، في تشاؤمه الكبير اتجاه الواقع وتجاه التاريخ وتجاه المستقبل، وأرى أن الكلام على جمود أو توقُّف الوعي، عند مرحلة معيّنة، وأن الثقافة التي نتعاطى بها، إنما هي ثقافة استثنائية، واستعادة للماضي فحسب، دون تمجيد أبعاد مستقبلية، هذا كلام فيه الكثير من الظُّلم”. وأضاف العلّامة السيد في مداخلته: “جاء في المقدمة كلمة أودّ أن أعلّق عليها وهي، القول بان اعتبار النبيّ محمد (ص) آخر الأنبياء، هذه تعني أن التاريخ توقّف هناك، أو أن الحقائق، توقفّت عند مجيء محمد نبيّاً. ولي نظرية تختلف عن ذلك لأقول: إن آخر ما أحتاج إليه الكائن الإنساني من إرشاد النبيّ بعد هذه الفترة الطويلة من إبراهيم إلى محمّد، آخر ما احتاج إليه من وحيٍ سماويّ، هو ما جاء به محمد من أجل أن يتحرّر العقل من أسئلة الغيب، ليدخل في أسئلة الواقع، في أسئلة التاريخ، أي من أجل أن يُتابع الكائن الإنساني، اكتشاف الكون والعالم، لا من أجل أن يردّد المعاني، ويردّد النظريات التي تضمّنتها هذه الرِّسالات، وهي لم تتكلّم لا عن الكون، ولا عن الطبيعة، ولا عن الاجتماع البشريّ بصورة كاملة، وإنما أرادت للكائن الإنساني أن يكون امتداداً لهذا الوحي، وأن يصل، في الغايات الأخيرة، إلى الله: {يا أيّها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}. وحتى الآن، نحن لم نعرف من الحقيقة المطلقة إلاّ الشيء القليل، ولا يلزم، من هذا، أن يأتينا وحيٌ لما بعد هذه الحقيقة، فهي مسؤوليتنا”.
وهنا توجّه السيد إلى أدونيس بالقول: “وها أنت، واحدٌ من هؤلاء الذين يكدحون في سبيل هذه الحقيقة”.

أدونيس
ونسبة لما قاله السيِّد في مداخلته أوضح أدونيس قائلاً:
“في هذه المناسبة سأعمد إلى عمل شيء من الفروقات، لزوم التوضيح حتّى يزول الالتباس، أنا أشكرك سيدي على هذه المداخلة، وأوافقك وكلياً، إلاّ في نقطة واحدة، التي أنا كان يجب عليّ أن أوضحها: لذلك، كنت أقول: الثقافة سائدة، يوجد إيمان فرديّ، ويوجد إيمان مؤسّسيّ، أنا أتحدّث عن المؤسّسة، ولا أتحدّث عن الفرد. والفرد ليس معياراً، لو اتخذنا الفرديّة معياراً، لكان لبنان، البلد الأوّل في العالم، بأفراده في جميع الميادين، لكن هذا البلد الذي يتفوّق بأفراده في جميع الميادين هو آخر بلدان العالم فيما يتعلّق بالمؤسسات. وإذاً أنا أشدّد في الحكم على الثقافة العربية، على ما هو سائد وعلى ما نمارسه في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا، لا على العقول العظيمة، كمثلك يا سيدي، أو كمثل غيرك”.
“هل يُغيّر الشِّعر؟ ماذا يُغَيِّر؟ وكيف يُغيِّر؟”، كانت هذه الأسئلة الثلاثة محوريّة الحوار المفتوح، الذي جرى بين الشاعر أدونيس والحضور الحاشد للندوة التي نظّمتها له الجامعة اليسوعية برعاية وزير الثقافة ريمون عريجي في قاعة “المكتبة الشرقيّة”، في كنيسة اليسوعيّة، في شارع مونو مساء 2/10/2014. الندوة التي ألقى فيها أدونيس محاضرته التي دار حولها الحوار المفتوح، وقدّم لها الشاعر عبده وازن، ومما قاله واصفاً أدونيس: بأنه الشاعر محطِّم أيقونات التحجّر والثّبات والظلاميّة، صوتٌ صارخ في صحراء العصر العربي: أن أعدّوا سُبُل الحريّة، وانفضوا عن جذوركم صدأ التاريخ، وأخرجوا إلى شمس الحياة”، وأوضح وازن أن أدونيس ليس شاعراً كبيراً فحسب، بل هو شاعر رائد في ميدان حداثة القصيدة واللغة والتأسيس، وهو أيضاً مفكّر كبير، حرٌّ ومتحرّر من تخوم المناهج الضيّقة”.
ثم تحدّث ادونيس، وبدايةً قدَّم شكره العميق إلى الجامعة اليسوعية في شخص رئيسها البروفسور الأب سليم دكّاش، وإلى جامعة الجميع أو جامعة للكلّ – كما وصفها – في شخص مديرها البروفسور جيرار بجّاني. وتابع موضحاً خصوصاً أنني أرى في هذه الاحتفالية، ما يرتفع بالمناسبة إلى مستوى الرَّمز، وبالحوار بين الذات والآخر، إلى مستوى الاستشراف الخلاَّق. وأضاف: وأنا مدين إلى رحابة هذه الجامعة، معرفيّاً وإنسانيّاً، وإلى الضوء الساهر، الساحر، المحبّ الذي كان يمثّله أستاذي الراحل البروفسور الأب بولس لوِيا.
وشكر “عمر أبي عازار وفريقه، على العمل الفنّي، الذي أنجزه حول قصيدة “جسدي بلادي”، والصديقين الأستاذين: جورج سلهب وعبده وازن، كلاهما تحدث عنّي بقلبه الكريم الواسع، وأعطاني الكثير مما لا أزال أخاصم فيه نفسي. وأشكركم أنتم أيتها الصديقات والأصدقاء الحضور. وأحيّيكم واحداً واحداً. خاصّاً بالذِّكر وزير الثقافة الأستاذ ريمون عريجي، لرعايته هذا الاحتفال”.

السابق
نازك الحريري في عيد الاضحى: آن الأوان للعمل المؤسسي أن يعود إلى مجراه الطبيعي
التالي
«حزب الله» نعى حسين علي قدوح