’داعش’ والطريق المسدود: الاستبداد أو الإرهاب

صيف 2014 هو صيف الأزمات. وكر سبحتها وراءه اسباب كثيرة منها غياب الأقطاب في العالم. فطوال وقت طويل، ساد العالم نظام ثنائي القطب (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي). وتلت تلك المرحلة مرحلة أحادية القطب غلبت عليها الهيمنة الاميركية. والنظام هذا قيّدَ، ولو على نحو متفاوت، الازمات. واليوم العالم يمر في مرحلة «صفر قطب»: ليس في مقدور دولة او مجموعة دول كبح الازمات وإرساء الاستقرار. ومردّ الأزمات كذلك إلى تناثر السلطة. فبعض الدول لم يبق من قوام دولته غير الاسم، أي هي دول اسمية لا تصح فيها الاركان التي تأتلف منها الدولة، في وقت تهب مجموعات الى نفسها صلاحيات القوة كلها، على غرار «الدولة الاسلامية». فثمة قوى كثيرة تمس الحاجة الى السيطرة عليها في وقت يُفتقر، أكثر فأكثر، إلى قوى يسعها الاقدام على ذلك. والسبب الثالث وراء ظاهرة الازمات المتناسلة هو تناثر قدرات الدمار، أي عدم إحتكار الدول وسائط القوة. والتناثر هذا هو من ثمار التطور التكنولوجي. وفي الشرق الاوسط، يضاف الى هذه الاسباب دوام النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني، والتباين السنّي – الشيعي، والحروب وعقود من الحوكمة الطالحة التي حالت دون التنمية والتطور ونفخت في الاحباط. ومن هذه التغيرات يأتلف مجتمع دولي جديد تتعايش فيه القوى التقليدية والأثرياء الجدد، وعناصر اجرامية وميليشيات. ولم يعد مفهوم الديبلوماسية الكلاسيكية، الفيستفالية على ما تسمى في بعض الاحيان، في محله.

وإزاء هذا الواقع الجديد هدفنا الطويل الأمد هو بروز عالم متعدد القطب منظم ويتصدر أولوياته الامن والسلام وليس السلمية. وردنا على الازمات المتباينة يستند الى هذه الرؤية.

في الأزمة الأوكرانية – الروسية، موقف فرنسا ثابت وركنه الحوار والحزم. فضم القرم إلى روسيا خطوة تقتضي الحزم. والحوار هو الخيار العقلاني اليتيم. فلا عاقل يسعه اعلان الحرب على روسيا ولا اغفال دروس التاريخ ومقتضيات الجغرافيا.

ولا يستخف بخطورة الازمة المترتبة على بروز «الدولة الاسلامية». فهذه المجموعة نافذة، ولا يستهان بأساليبها ولا بأهدافها. فهذه المنظمة أخطر من غيرها من المجموعات الارهابية التي سبقتها او تعاصرها. فـ «جهاديو الدولة الإسلامية» انشقوا عن «القاعدة» وعابوا عليها «اللين والرخاوة». وسادر في الوهم من يحسب أن هجماتهم ستقتصر على العراق وسورية ولن يبلغ مدها المنطقة كلها والعالم وأوروبا. لذا، يدعو رئيس الجمهورية (الفرنسية) الى مؤتمر دولي يتناول الامن في العراق.

ولا جدوى ترتجى من تحرك في العراق إذا لم يبحث في سبل حل المسألة السورية. لكننا نحترم القانون الدولي ولن نقع في الفخ الذي ينصبه لنا الجهاديون. وثمة من يأخذ علينا اليوم في فرنسا عدم التدخل في وقت مبكر في سورية، وحري به العودة بالذاكرة الى تلك المرحلة وملاحظة أنه حين انعقد مؤتمر جنيف الأول لم يكن «حزب الله» أو الارهابيون في سورية، وأن باريس دعمت المعارضة المعتدلة، على خلاف دول كثيرة كما روت هيلاري كلينتون في مذكراتها. وبعد 6 اشهر من المؤتمر الاول هذا، رسخ الجهاديون حضورهم في سورية. وفي آب (أغسطس) 2013، برزت مسألة السلاح الكيماوي، وكانت فرنسا جاهزة للتحرك، لكن التدخل لم يحصل. ولن نعيد كتابة التاريخ، ولكن لا يجوز أن تكون الشعوب أمام خيارين: إما الحكم الاستبدادي والديكتاتورية وإما الارهاب. وفي مواجهة بشار الأسد كان موقف المعارضة المعتدلة، وهي صاحبة رؤية غير إقصائية، في محله. واليوم، تجد المعارضة نفسها بين سندان النظام ومطرقة الجهاديين. فالطرفان أجمعا على ملاحقتها. والأسد ساهم في تمدد الإرهابيين، إذ أفرج عنهم من سجونه.

وتشن اليوم حملة كبيرة على الرئيس الأميركي، لكنه رئيس شعب بانت عليه علامات «الإرهاق من الحرب»، وهو مضطر الى احتساب حال شعبه. والأميركيون هم هدف الانتقاد في كل الأحوال، سواء أفرطوا في توسل القوة وتدخلوا كيفما اتفق، كما حصل في العراق ضد صدام حسين، أو أحجموا عن استخدامها. والمجتمع الدولي يشيد بمبادرات فرنسا الخارجية، لكن الشركاء في الداخل يصلونها النقد. ولا يخفى أن أوروبا تفتقر الى سياسة خارجية (خاصة بها).

روسيا بين الحوار و «الضغط»

وفي أوكرانيا الوضع خطير. ونسعى الى تسوية تعبد الطريق أمام وقف النار وضبط الحدود (مع روسيا) وإرساء مشروع سياسي وتنموي متوازن في أوكرانيا. وحريّ بنا التزام حدين في التعامل مع فلاديمير بوتين: يقتضي هذا عدم الانسياق وراء المحاباة واعتبار ان كل ما تقدم عليه روسيا الصديقة التي تربطنا بها علاقات تاريخية واستراتيجية، في محله ومسوّغ، ولو انتهكت حدود دولة أخرى، والإحجام عن إعلان الحرب عليها جزاء هذه الخطوات. وبين الحدين (الحرب والمحاباة)، في الإمكان اللجوء إلى الحوار والمفاوضات والعقوبات. ويفترض أن يسع أوكرانيا الارتباط بعلاقات جيدة مع روسيا، الدولة الجارة، ومع الاتحاد الأوروبي، وهو الآخر جارها. ويبدو أن من العسير التوفيق بين الأمرين. ففي كل من روسيا وأوكرانيا أُججت المشاعر القومية، وترك لها العنان، وليس إخمادها في المتناول أو يسيراً. وحري بفرنسا ألا تفرط بمبادئها: التمسك بوحدة الأراضي الأوكرانية واحترام القانون الدولي، والسعي إلى إرساء الأمن والسلام عبر طريق الحوار والحؤول دون التصعيد.

 أوروبا

وعلى رغم تعثر سعي أوروبا إلى صوغ سياسة خارجية موحدة، بدأت تبرز في المسألة العراقية معالم مثل هذه السياسة: إدانة «الدولة الاسلامية»، ودعم حكومة وحدة عراقية، ومد جسر إغاثة انسانية الى اللاجئين، وتأييد تسليح الاكراد. وعلى سبيل المثل، قررت ألمانيا (على خلاف نهجها السابق القائم على النأي بالنفس عن النزاعات الخارجية) تسليح الأكراد. وإذ نرحب بالإشادة الأوروبية بعملياتنا الخارجية – في مالي وأفريقيا الوسطى – نستسيغ مشاركتهم (بدورهم في مثل هذه العمليات). ولا تعادي «الدولة الإسلامية» ما تسميه الغرب فحسب، فهي خطر قاتل على كل ما يختلف عنها، أي «الغرب» والعالم الإسلامي. ويعود إلى فرنسا أداء دور الجسر بين الشعوب في عالم «صفر قطب».

السابق
لماذا غادرت شانتال صليبا الـMTV؟
التالي
اهالي القلمون قطعوا الطريق البحرية