الحراك العربي بين استقطابين سياسي وديني

تناول أديب نعمة ما سمي بالربيع العربي من زاوية ما سمّاه الدولة الغنائمية في البلدان العربية، فغاص في بنيوية مجتمع هذه البلدان، محاولاً محو الصدأ وتنظيف غرغرينا الواقع، منتجاً نصاً متماسكاً في ربطه حلقات هذه البنى، وتقرحات مفاصل هيكليتها الدولتية والمجتمعية، واختراق العولمي لها، وخلص الى «صعوبة التوقع» قائلاً: لا يمكن توقع المستقبل بدرجة مقبولة من الدقة في الوقت الراهن، ولا يتعلق ذلك بقصور المنهجيات، بل بطبيعة المرحلة نفسها التي تتسم بدرجة عالية من اللااستقرار، ووجود عدد كبير جداً من الفاعلين الداخليين والخارجيين، كما يتعلق بدرجة البراغماتية الكبيرة جداً التي تبديها الأطراف السياسية الفاعلة في التكيف مع المتغيرات..» (ص298 من كتاب «الدولة الغنائمية والربيع العربي» الصادر حديثاً عن دار الفارابي في بيروت، بتمويل من شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية عبر مؤسسة دياكونيا والوكالة السويدية للتنمية الدولية).
شرح نعمة مفهوم «الدولة الغنائمية» متمسكاً بقياسها على ما عالجه في الكتاب إزاء مصطلح «الإرثية المحدثة» الذي صاغه الدكتور أحمد بيضون لـ «الباتريمونيالية» العائدة إلى عالم الاجتماع ماكس فيبر، ورأى أن الدولة الغنائمية بمثابة «التجلي الأكثر تعبيراً عن الممارسة الإرثية المحدثة في البلدان العربية»، لأن في الدولة الغنائمية « تضيع الحدود بين الشخص والمؤسسة، وبين العام والخاص، وبين الوظائف الإدارية والسياسية للدولة، وبين الجمهور والمملكة، أو الإمارة، وبين التقليد والحديث» (ص119)، مشيراً الى بعض الاختلاف، ولكن ليس في الجوهر، لهذا النظام أو تلك الدولة، شارحاً حالتي «دولنة المجتمع»، أي هيمنة الدولة على المجتمع، و «أهلنة الدولة» كما الحال في لبنان من خلال سيطرة مراكز قوى الطوائف والمجتمع على الدولة.
في العرض المكثف لفكرة أن الدولة الغنائمية نفي للدولة المدنية وللمجتمع الحداثي القائم على ثقافة المواطنة وروابطها، استجمع الكاتب أسباباً عدة في جديلة واحدة أفضت الى صعوبة التوقع في التغيير إثر ما سُمّي الربيع العربي، وهو يدرج بالبرهان الإشكاليات الناجمة عن أخطبوطية شبكة المصالح في دوائرها الثلاث، الشخصانية والمحلية والعولمية، مبقياً على رصيد من رهانه كحقن معنوية وشبه يقينية في الوصول ذات يوم الى بناء الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة.
أخذ نعمة على الحراك العربي تغليبه أجندة التغيير السياسي الداخلي مقابل تغييب الاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي وضع الحراك في خانة المواجهة مع التقلبات السياسية الخارجة عن قدرة هذا الحرك، أو ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، وهو ما لحظناه في نتائجه بعد مرور سنوات على انطلاقه من تونس الى غير دول، إذ توقف قطار الحراك من دون أن يمسّ باقي الدول التي تتشابه بمشتركات الدولة الغنائمية، فضلاً عن الظواهر السياسية التي باتت تعرف بالثورة المضادة.
في هذا السياق لم يكن رهان نعمة على المجتمع المدني موفقاً، فتشرذم القوى الفاعلة وشعاراتها اجتاح حيز القلق الوجودي لقوى الحراك وغيره من النسيج الاجتماعي العربي، وما «داعش» سوى بثور السطح الاجتماعي، والصورة الجلية لانكفاء الحراك.
وأمام مرآة مقعرة وضع نعمة صورة المشهد العربي فانعكست كالتالي: «تميز تطور الأوضاع في البلدان العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة بتآكل شبه كامل لشرعية الدولة والنظم الحاكمة في البلدان العربية، وفقدانها القاعدة الاجتماعية والسياسية التي بنت عليها مشروعيتها التاريخية، كما تحولت الى نسخة فجّة من الدولة الاستبدادية من النمط المافيوي- الأمني، وتم ذلك في مسار العولمة النيوليبرالية، ولهذه أطوارها أيضاً، تأثرت بها بشكل هيكلي أكثر مما يبدو للوهلة الأولى، وقد ساهمت مؤثرات العولمة هذه في دفع تغييرات قسرية مفروضة على المجتمعات العربية، تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، أدى تراكمها وتفاعلها الى تحفيز بيئة مهيأة للانفجار وللمطالبة بالتغيير السياسي والاجتماعي»(ص55)… ولكن؟
من هذا التداخل المحلي بالعالمي والعولمي انبثق هذا الهجين الذي كرّس الدولة الغنائمية، فمن العولمة النيوليبرالية (القيادة السياسية للدول السبع)، والشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقوميات، والمؤسسات المالية الاقتصادية الكونية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي الى عقد التسعينيات، واندفاعة العولمة النيوليبرالية والعولمة الاقتصادية، أصبح البعد الكوني عنصراً مكوناً للسياسة الداخلية في الاجتماع والثقافة وفي الاقتصاد بشكل خاص. وورث مع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أزمات العقدين السابقين والحرب على الإرهاب والتجلي الملموس لصراع الحضارات (من الفصل الثالث)، ما أنتج أزمات مالية واقتصادية، ونمواً كبيراً لصناعة الأمن، فصار الريع والفساد مكونين عضويين للنظام العربي، وكالعادة- يقول نعمة- عندما نستورد وصفة من النظام العالمي فإننا نستوردها في أسوأ الشروط، ونطبقها في أكثر صيغها تخلفاً.
أما اختياره لبنان وفلسطين كنموذجين لمحاولات التغيير في سياق مناقشته تجارب التغيير في البلدان العربية، فثمة ما يشي من خلالهما بمؤشرات عدم القدرة على إحداث التغيير المنشود… والوقائع تنفي الشك: فقد بنى على الانتفاضة الأولى العام 1987 محاولة تقييم رؤيته للتغيير «كتمرحل متداول في الأدبيات الفلسطينية والعربية»، تبعها مؤتمر مدريد للسلام، ثم اتفاقية أوسلو، فانتخاب ياسر عرفات رئيساً للسلطة الفلسطينية العام 1996، ثم فشل عملية السلام بين السلطة وإسرائيل، فانتفاضة ثانية العام 2000، فانسحاب إسرائيل من غزة العام 2005، تلاه فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية العام 2006، ثم سيطرتها على غزة ووقوع القطيعة بينها وبين حركة فتح. من هذه التطورات يستخلص نعمة «أن هذه التغيرات حولت المقاومة المسلحة الى سلطة حكومية، أي الى نظام عربي جديد يضاف الى الأنظمة العربية القائمة» (ص180)، مقارناً بين دروس الانتفاضة الفلسطينية الأولى والسمات المشتركة مع الحراك العربي، ومنها اشتراك إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وحركة فتح في إجهاض الانتفاضة المذكورة.
أما الدرس الثاني في محاولة التغيير، فكان لبنان كنموذج «بدءاً من العام 2005 إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري»، واستعرض الكاتب مراحل تاريخية سابقة منذ تشكل النظام اللبناني العام 1920، ومراحل الحرب الأهلية 1975- 1990 «وتهميش البعد الإصلاحي، إذ باتت الغنائمية المتطرفة الحربية سيدة الموقف» (ص214)، تبعتها غنائمية ما بعد اتفاق الطائف، ليخلص إلى القول «إنه منذ العام 1990 واصل لبنان السير نحو شبه اضمحلال الدولة والعودة الى غنائمية متوحشة متمفصلة على الخارج، وفقدان المزيد من الاستقلالية» (ص273).
ماذا عن تحديات المرحلة الحالية في البلدان التي شهدت حراكاً؟ أتى المؤلف على أسباب عدة، منها وأبرزها طبيعة المرحلة في أبعادها الانتقالية والتأسيسية والتكوينية، وتحدي الاحتفاظ بالائتلاف الثوري (مصر نموذج) والإرهاب ببعديه الداخلي والخارجي (حدّث ولا حرج)، والأوضاع المعيشية (اليمن مثال، فضلاً عن الصومال المنسية).
وأمام تخوفه من تحدي تحول الاستقطاب السياسي في الحراك العربي على أساس الخيارات والمصالح الاقتصادية والاجتماعية، إلى استقطاب أيديولوجي ديني غالب، ما علينا سوى متابعة الخبر العاجل في أسفل شاشات الفضائيات العربية، وأيضاً التوقف عن متابعة تحليلات الخبراء ونخب المثقفين ممن أثقلت توقيعاتهم أنواع الورق كافة!

 

السابق
مصير الرئيس التركي عبدالله غول؟
التالي
لجنة موقتة تخلف سليماني في إدارة ملف العراق