وجيه كوثراني: البحثُ التاريخيّ لتفسير الإيديولوجيا وليس لدحضها

الدكتور وجيه كوثراني، هو أحد مؤرِّخينا الكبار/ الأعلام، أحد روّادنا الحداثوييّن الذين تركوا بصمة دامغة في عِلم التاريخ. إذْ إن اشتغاليّة كوثراني على التاريخ، هي اشتغاليّةٌ عِلْميَّةٌ/ إنتهاكيَّةٌ، للمعميّات التاريخيّة، المتعلّقة بالحياة العربيّة والإسلاميّة. فكتابات كوثراني كلّها غاصّة بمِوَرَانِها بالنّقد المعرفيّ الكاشف، لحقائق تاريخنا العربي والإسلامي، من أجل ولادة وعي عربيّ وإسلامي مختلف، وعيٍ تاريخيّ تجاوزيّ، لا يكون أسيراً للماضي، ولا يُلهيه الحاضر، عن التفكير الحذِر بالمستقبل. وهنا حوارٌ مع كوثراني، مناسبتُه، أنّ “الجامعة الأنطونيّة” كرَّمته، منذ أيام في سياق مشروعها التكريمي السّنوي الموسوم بـ”إسم علم”، إذ هي تكرِّم كل عام شخصيّة فكريّة لبنانيّة.

تقديراً منها لجهودك العلمية المشهود لها، كرّمتك الجامعة الانطونية، ومنحتك لقباً شرفياً علمياً، هو (مؤرخ البنى والتحولات)، فكيف تصف شعورك، حيال هذا التكريم، وما هي نظرتك إلى هذا اللقب؟
أشكر كل من قدّر جهودي العلمية، قريباً أو بعيداً، لبنانياً كان أو عربياً أو أجنبياً، وسواء توافق مع آرائي وأفكاري، أو اختلف معي في التقديرات والاجتهادات. القراءة هي بحد ذاتها تقدير للكاتب، فكيف إذا قرأك أحدهم فكرّمك ومنحك “لقباً علمياً”. وفي حالتي، إن جامعة لبنانية معتبرة كالجامعة الأنطونية ومراجع أكاديمية حيادية لا تربطني بها أي علاقة شخصية، تكرّمني في سياق مشروعها الكبير والجدّي والنبيل “اسم علم”، وهي مبادرة تُحيّا وتُشكر عليها، ولا سيما إذا عرفنا أن هذه المبادرة هي جزء من مشروع سنوي يجري فيه التكريم كل عام لشخصية فكرية لبنانية. وقد جرى قبلي تكريم الشخصيات التالية: ناصيف نصار، جورج قرم، بولس الخوري، أنطوان موراني، أحمد بيضون، جورج خضر، خليل سركيس.
أرى أن مشروع الجامعة الأنطونية مشروع تاريخي كبير (وطني وعلمي وثقافي) مشجع ويدعو للتفاؤل ويبعث على الأمل ويقدّر الكفاءات المتعددة والمتنوعة الانتماءات، وذلك في مرحلة تاريخية دقيقة وحرجة وخطرة، يحتدم فيها الصراع على المستقبل، مستقبل الإنسان ومستقبل التنوع والتعدد في هذه المنطقة. شعوري يتلخص بالقول الذي رددته في كلمتي للقيّمين على الجامعة الأنطونية “أنه لا يزال في لبنان خير وجمال وأمل” على الرغم مما يظهر على السطح من نتوءات منفرة.

حبذا لو تُطلع القارئ، على أبرز صُوَر ماهية البنى والتحولات التي اشتغلتَ عليها في أعمالك التأريخية؟
الحقيقة أن هذا المصطلح استُخرج من خلال دراسات كتبها باحثون ومفكرون (لبنانيون وعرب)، شاركوا في وضع الكتاب التكريمي الذي أصدرته الجامعة الأنطونية بهذا العنوان (مؤرخ البنى والتحوّلات)، وركزوا فيها على المحاور والمفاصل الأساسية لمباحثي وكتبي وبمنهجية نقدية تجمع بين التوصيف والتحليل. وبالمناسبة يعود الفضل في إعداد هذا الكتاب وتحريره وإخراجه وتنسيقه إلى المشرفة على المشروع: الأستاذة بسكال لحود، التي أعدّت مع زميلاتها وزملائها المشروع التكريمي بكامله، فإليها أوجّه شكري وإلى رئيس الجامعة الأب جرمانوس جرمانوس.
المقصود بالبنية أنها مجموعة من العناصر المنتظمة في سستام متسق من وحدة العناصر. وفي حالة التأريخ للمدى الطويل، أي للفترات الطويلة، يسود سستام غالب من العناصر والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. تنتظم في بنية لها مميزات مشتركة على مستوى طبيعة السلطة وأهلها واجتماعها واقتصادها وطرق تفكيرها، وأساليب عملها واستثمارها للأرض وللأفكار…الخ.
وهذه البنية تدوم في مجتمع معين ومكان معين وزمن معين، فتتسم بشيء من الثبات، حتى يتدخل (عنصر داخلي أو خارجي) وغالباً ما يكون خارجياً، فتبدأ البنية بالتحوّل والتغيّر. فالمقصود بمصطلح التأريخ (للبنى والتحولات)، أي التأريخ للثابت أو الدائم أو المستمر من جهة أو للتغير والتحوّل من جهة أخرى. كما التأريخ لعملية التواصل والتداخل والانقطاعات.
وبالنسبة لدراساتي، أخضعت العديد من مباحثي لدراسة هذه الإشكالية الكبرى عبر معالجة إشكاليات أكثر تحديداً بالنسبة لتاريخنا العربي والإسلامي (لا سيما الحديث والمعاصر منه) كإشكالية التاريخ للتكوين التاريخي (الأول) “للبنان الكبير” (من الإمارة إلى المتصرفية إلى دولة لبنان الكبير) حيث أخضعت دراسة بنية الإمارة التي هي جزء من بنية السلطة وتراتبيتها في الدولة العثمانية والمجتمع المحلي إلى تأريخ تحليلي لعناصرها: الإقطاع، الاستثمار، الرسملة، نشوء نخب جديدة، تحوّلات متباينة على مستوى المناطق والطوائف، وصولاً إلى دراسة العوامل المحددة أو السائدة: السياسات الدولية، الإصلاح العثماني…الخ.
أيضاً كإشكالية السلطة والمجتمع بين البنية التقليدية للدولة السلطانية القائمة على أنماط محددة من العلاقات والأعراف وبين استدخال أو اقتحام المفهوم الجديد للدولة (الدولة/الأمة أو الدولة الوطنية) والتي تقوم على أنماط أخرى من العلاقات (التمثيل، المواطنية، الانتخاب…الخ).
أيضاً كإشكالية العلاقة المركّبة بين الفقيه والسلطان في مرحلة الدولة السلطانية وعناصرها الجديدة في مرحلة الدولة الحديثة، فللمرحلة السابقة لتلك العلاقة بنيتها، وللأخرى توجهاتها وتحولاتها التي تقطع مع البنية القديمة.

اشتغلتَ على التاريخ، اشتغالاً نقدياً، على أنه مجموعة أزمنة متحولة، فماذا يعني لك التاريخ، إذاً، كمؤرخ وكإنسان في الوقت عينه؟
كل كتابة هي تعبير عن حالة، قد يكون التعبير أدبياً، نثراً أو شعراً أو رواية أو قصة، وقد يكون بحثاً، له منهجه وقواعده وضوابطه وأسلوبه. والبحث التاريخي يندرج في منظومة العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومن زاوية ابستمولوجية (أي معرفية) ، هذه العلوم متداخلة بل أضحت منذ عقود متكاملة. وقد احتل التاريخ مركزاً طليعياً ومحورياً فيها، حيث انه لم يعد بإمكان أي علم من تلك العلوم (الإنسانية والاجتماعية) الاستغناء عنه (عن التاريخ)، أي أن المعرفة التاريخية المتعددة الحقول والأبعاد (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية) أضحت مدخلاً لا بد منه لأي مقاربة، وأضحى المنهج التاريخي في مقاربة أي موضوع من موضوعات الإنسان والمجتمع منهجاً لا بد من اعتماده كلياً أو جزئياً. ومن زاويتي كمؤرخ، لا بد من أن يستعين المؤرخ بمناهج ومفاهيم يستعيرها من حقول أخرى: من الفلسفة أو علم الاجتماع أو الاقتصاد…الخ. ولذا فإن الإنسان والمجتمع، حالة ثنائية لا ينفصل طرفاها، الإنسان كفرد، ومواطن وذاكرة (أي كزمان ومكان) حاضر دائماً في النص التاريخي، لأنه لا بد للكتابة من خيال وتأمّل، وحس بالحق والحقيقة والعدل والعدالة. النص التاريخي بالنسبة لي ليس نصاً بارداً أو جافاً، انه يتفاعل مع المشاعر والسياقات، والمآلات، من ضمن بوصلة اتجاهات التغير في التاريخ نحو الأحسن والأفضل.

التاريخ، هو وليد؛ أو ابن ايديولوجيا بعينها، أو مجموعة ايديولوجيات مختلفة ومتنوّعة حكماً، وبالضرورة، ومن هنا، فإن قراءة التاريخ قراءة لا ايديولوجية، ألا تعني، نقضاً، أو دحضاً للأيديولوجيا؟ أو للإيديولوجيات برمتها؟ لماذا اخترتَ أن تكون مؤرخاً، وما هو السبب الأساس في قراءتكَ التاريخ، قراءةً نقدية، اي غير أيديولوجية؟
لحظة الاختيار في سياق زمني معيّن تكون في معظم الأحيان نتاج تفاعل تجريبي بين عدة مسارات. تبدأ هذه اللحظة باختيار اختصاص جامعي، وفي حالتي كان التردد قائماً بين الحقوق والفلسفة والتاريخ، ليستقر خلال شهور على التاريخ. أما الأسباب فهي ظرفية ومهنية ونفسية متداخلة ولا يمكن عقلنتها سببياً، بعدها وبعد أن تختار بقرار إرادي، يبدأ التفاعل مع الاختصاص ويسير المرء باتجاه التركيز على اختصاصه لتحقيق مهارات وأهليات وجدارة في اكتساب أصوله وطرائق تحصيل أساسيته والكتابة في بعض موضوعاته. إنه مسار تجريبي بامتياز. أما لماذا التاريخ، فلا جواب، لأنه كان يمكن أن أكون باحثاً اجتماعياً لو تخصصت بعلم الاجتماع، أو باحثاً في الفلسفة لو تخصصت في الفلسفة. والحقيقة أني حاولت من خلال اختصاص التاريخ، وعبر مدارسه الحديثة والمتطوّرة أن أستدخل في البحث التاريخي الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والاتنولوجيا، انطلاقاً على أن المعرفة التاريخية هي كل هذا غير مجزأ. أما النقد، فليس خياراً، إنه جزء لا يتجزأ من منهجية التاريخ. المؤرخ الحقيقي هو ناقد أولاً وقبل كل شيء، ولا يكون مؤرخاً إذا لم يستخدم سلاح النقد.
والنقد يبدأ من التعامل مع الوثيقة إلى التعامل مع الأفكار والتيارات والمدارس، وإذا ما قصدت بالايديولوجيا والايديولوجيات منظومات الأفكار، فهذه هي حقل من حقول البحث التاريخي. التاريخ ليس علماً بحتاً كالرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، إنه علم تدقيق وتحقيق ونقد لوقائع ماضية ولأفكار وعقليات وفرضيات وليس لماديات ملموسة. إذاً، احتمالات الأدلجة ممكنة واحتمالات اختراق الايديولوجيا للنص التاريخي كبيرة، وقد تتم بوعي وسابق إصرار، وقد تتم بغير وعي. لا أحد يفلت منها لأن المؤرخ إنسان هو ابن بيئة وثقافة وسطه ومجتمعه ومغروس في مشاكل هذا المجتمع وضغوطه واندفاعاته وايديولوجياته أيضاً.
وبالنسبة لي يصح البحث التاريخي جهداً لتفسير الايديولوجيا وليس “دحضها أو نقضها” كما يقول السائل. لا أحد من الباحثين في علوم الإنسان والمجتمع ومن ضمنهم المؤرخ بقادر أن يفلت من ضغط ايديولوجيا من الايديولوجيات.
وبالمناسبة يجب التذكير أن ثمة ايديولوجيات بناءة في التاريخ، وايديولوجيات مدمّرة. وقد تنحرف الايديولوجيات البناءة في مسارها لتصبح هدّامة في لحظة تاريخية ما. تاريخ الأفكار والأيديولوجيات، ليس تاريخ أبيض وأسود، خير وشر، إنه تاريخ التحولات، علم التاريخ هو علم التغير والتحول، علم يفسّر الظواهر السياسية والاجتماعية في الزمن التاريخي.

مشروعك التاريخي، في علم التاريخ، إلى أين وصل اليوم، وما الذي تصبو إليه حالياً، كاستكمال لهذا المشروع الحيوي معرفياً وثقافياً؟ وما هي أبرز استنتاجاتك، التي يمكن أن تُعدّها بمثابة يقينيات دامغة، تجاوزية، يمكن أن يبنى عليها، ما بعدها؟ هذا إذا ما اعتبرنا أن ثمة يقينيات ما في هذا المجال؟
أولاً، ليس لديّ مشروع معلن ومحدّد على غرار مشاريع بعض الباحثين والمفكرين العرب يبدأ بنقطة وينتهي بنقطة، لديّ مشاريع أبحاث تحاول معالجة إشكاليات وقضايا من التاريخ العربي والإسلامي، إشكاليات وقضايا لها صفة الامتداد والاستمرار أو التأثير في الأزمنة التاريخية المتتابعة أو المتقاطعة. إنها محاولات إجابة على أسئلة تتداعى بفعل الإجابات السابقة. بمعنى أن كل إجابة تقود بدورها إلى سؤال جديد، يتطلب تعميقاً أو توسيعاً أو انتقالاً إلى حقل آخر.
يستحيل أن أقول مثلاً أني استنزفت الإجابة على الأسئلة التي بدأت فيها الكتابة عن التكوّن التاريخي للبنان الكبير (من الإمارة إلى الدولة)، ولا زال هناك أسئلة عالقة على البحث التاريخي (عليّ وعلى غيري) استكمالها ومحاولة الإجابة عليها.
يستحيل أيضاً أن أقول أني استكملت البحث في العلاقة بين “الفقيه والسلطان”، فهذا بحر لا ينتهي، ولا يبدو لي أن ثمة ضفافاً تحده، وهل الكتابة في الذاكرة والتاريخ تنتهي؟
هذا على المستوى الموضوعي، أما على المستوى الذاتي، فما أصبوا إليه هو توسيع أو شرح ملء ما تركته من فراغات في كتبي السابقة، وربما أن أجمع ما كتبته ولم ينشر أو أن أجمع ما نشرته في الصحف من “مقالات رأي” وهي كثيرة تبدأ من سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. أما بالنسبة لليقينيات فلا يقينيات عندي، سوى يقين القلق الدائم هو ما رافقني دائماً، بل سكن بي ولا يزال.

السابق
اللعب يعزز نمو الأطفال ويزيد سعادتهم
التالي
جسم طرابلس اللبّيس.. بين الصلبان والبيرة