قراءة في أفكار عبد الكريم سروش

 

شهد العالم الإسلامي منذ مطلع القرن التاسع عشر، حركات إصلاح وإحياء ونهوض ، تسارعت وتائرها إلى النصف الثاني من القرن العشرين، ولا تزال مستمرة إلى يومنا هذا . ومن المتفق عليه بين المؤرخين، أن تاريخ الشعوب العربية والإسلامية في القرنين الأخيرين، هو تاريخ مشروع تحديثي شامل، لكنه مشروع لم يكتمل بعد ، اذ لا تزال أخطر مشكلة تواجه العرب والمسلمين هي مشكلة دخول العصر بكل ما للكلمة من معنى، ورغم إنخراط المجتمعات العربية والاسلامية – بدرجات متفاوتة – في مخاض الحداثة ، واستفادتها من بعض مكتسباتها المادية ، والتقنية والفنية، إلا أنها لم تفلح بعد في تشكيل المجتمع والدولة الحديثين، لأن الحداثة ليست قراراً يتخذ فتكون ، أو جملة تدابيروتعديلات بسيطة، إنما هي أساساً فعل تاريخي، يتم خلاله نزع تأثيرات الإرث التقليدي عن الفرد والمجتمع. والتحديث يترافق مع سلسلة حالات من التحرر تكون عادة مكلفة وخطرة.

 

ليس شيئاً من باب الاكتشاف العظيم أن يُقال إن فكرة الحداثة وُلِدَت في التاريخ العربي الحديث في ركاب زحفٍ سياسيٍ ، وعسكريٍ أوروبي ، امتدّ زماناً من غزوة نابوليون بونابارت لمصر ، في خواتيم القرن الثامن عشر . فأجمع المفكرون المسلمون بعد هذه الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 ، على إعادة قراءة التراث الاسلامي . فالإسلام عندهم لا يُشخَّص بما هو نظام جامد مغلق ، ذو جسم فيزيقي آلي ، لا يقبل أي تغيير أو تطور ، وإنما هو نظام حي يستجيب بمرونة لتعاقب الأزمنة وتحوّلها ، ويتقبّل أحكام الخبرات والتجارب والأحداث الزمنية ، أي انه قابل لتطورات تدريجية ، وللحظات تتقدّم به في الزمان والمكان ، وتنخرط في حركة العالم. كانت مقاصد مفكّري الاسلام “تقدمية” ، “تجديدية” ، “تحديثية” ، تتردد بين حركة دينية اصلاحية مثلما فعل الأفغاني ومحمد عبده ؛ وحركة تحديثية ” شبه علمانية ” ، مثلما فعل قاسم أمين وعلي عبد الرزاق ، والطاهر الحداد … فارتبطت كتاباتهم ودوافعهم منذ ما دعي بالنهضة العربية ، بمقياس الغرب – تقدمه وتأخرنا ، عقلانيته وغيبياتنا ، علمه وجهلنا- . وعلى الرغم من مرور قرنين من الزمن على الإرهاصات الأولى للفكر الاسلامي الحديث ، لا تزال مسألة إعادة قراءة التراث الديني مطروحة وبحدةٍ في جميع أنحاء العالم الاسلامي.

 

ومن ضمن الفضاءات الاجتماعية التي مرّت بهذا الهاجس الفكري ، الفضاء الإيراني ، بما امتاز به من سمات اجتماعية وسياسية جعلته يعيش صراعاً ثقافياً مختلفاً عن غيره من جهة الخصوصية المذهبية ، والتمايز الحضاري ، واختلاف نمط الشخصية الايرانية . فبعد قيام التغيير السياسي عام 1979، المتمثّل بالثورة الإسلامية، التي كانت حدثاً متميزاً في تاريخ القرن العشرين ، حيث أطاحت رمزاً عتيداً للقوة الإقليمية وهو الشاه محمد رضا بهلوي ، وحوّلت ايران من نظام ملكي ، لتصبح جمهورية اسلامية عن طريق الاستفتاء بقيادة روح الله الخميني . لكن لم تكتفِ الثورة باستبدال حاكم بآخر فحسب ، بل ثبّتت مكانه فكرة ، أو نظرية ما زالت تحكُمّ حتى اليوم في ايران . هذه النظرية هي ، “ولاية الفقيه” ، التي تطغى على واقع ايران السياسي وعلى المنطقة منذ صعودها وحتى اليوم ؛ على الرغم أن العديد من الأنظمة انقلبت ، وتغيّر شكل المنطقة العربية الاسلامية من المغرب حتى اندونيسيا ، وتبخّر النظام العراقي وقبله طالبان بفعل الآلة العسكرية الأميركية ، وأعادت أنظمة عديدة النظر في أولوياتها وتحالفاتها الخارجية ، ولكن ايران تحت حكم ولاية الفقيه لم تنقلب حتى الآن .على الرغم من دخول هذا النموذج في صراعات متعددة منها عسكرية وأخرى سياسية ، لتمهّد هذه الصراعات الطريق أمام النخب الثقافية الايرانية لتأسيس صراعها الفكري مع هذا النموذج وبناء مفاهيم فكرية جديدة . sorouch2مقدمة ضمن هذا البحث ، تندرج الأفكار التي قدّمها – ولا يزال – المفكر الإيراني “عبد الكريم سروش”، الذي عاش التجربتين الفارسية والغربية ، والذي واصل بجرأته ، ولغته الممزوجة بشعر جلال الدين الرومي، وجمعه بين موروث الفكر الإسلامي ومستجدّ الفكر الغربي ، التنظير في حقل المعرفة الدينية ، فامتاز جهده بشيء من الخصوصية لكونه يتحرر من قيد مذهبيته لينفتح على فضاء التجربة الإنسانية بتنوعها، والوصول إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة ، ليس بالتخلي عن الدين ، وإنما بفهمه له بشكل جديد ليواكب العصر وتطوراته ليصل بالإنسان إلى بر الأمان في الدنيا والآخرة . فتناول اشكالية نهضوية ، تنبع من رؤيته للواقع غير المتقدّم الذي تعيشه المجتمعات الاسلامية ، ساعياً الى تجديد وتنشيط وتحديث الفكر الإسلامي عموماً والإيراني خصوصاً ، وجعله مسايراً لما يقتضيه العصر من حداثة فكرية ، من خلال بلورة تصوّر لفهم جديد للدين ، يتناسب مع تطور العلوم ، و مقتضيات العصر ، ومع الحداثة ، التي قضت أزيد من ثلاثة قرون في التبلور والتشكّل هناك على الضفة الأخرى من البحر المتوسط دون أن يشارك فيها العقل الاسلامي . فمنطلقه ديني محض ، ولم يكن ضد الدين . لكن التديّن هو المتحوّل التاريخي الذي يمكن النظر اليه وصولا الى الأصل . فالدين ثابت لكنّ التديّن متحوّل ، لذلك رؤية “سروش” للدين تاريخية وليست تأويلية جديدة ، أو بعبارة أخرى الانتقال الى حدود راهنية الدين ، وكيف يكون الدين معاصراً ؟ وهل التديّن بصيغته التقليدية الذي تعيشه المجتمعات الاسلامية ، هو العائق لها في مواكبة العصر ، وتطور العلوم والمعارف ، والمانع لحركة اندراجها بمسارات الحداثة الثقافية والمادية ؟ وهل يمكن للمقاربة المنهجية والفلسفية التي اقترحها “سروش” لفهم الدين ، ان تُشَكّل صراطًا يواكب تطور العلوم ما قد يُحدث قطيعة عن المنظومة التقليدية ويُدخل الاسلام في مسار الحداثة ؟ قراءة جديدة للنص الديني يدعو سروش إلى قراءة جديدة للنصوص الدينية ، قراءة مختلفة منهجياً من حيث الأغراض والدوافع عن القراءة الموروثة . وأبرز ما يميَز القراءة المقترحة، خروجها عن إطار الفهم التقليدي للدين ، الذي يعتبر الفقه محور التديَن ، أو تجسيده في الحياة العامة . فالفقه هو أحد أجزاء الدين ، والدين أوسع من أن ينحصر في حدوده. إن أهم أثر لسروش حول الدين والمعرفة الدينية جاء في ثلاث كتب : “القبض والبسط في الشريعة” ، “بسط التجربة النبوية” ، “والصراطات المستقيمة”، القبض والبسط والتجربة النبوية نظريتان إحداهما مكملة للأخرى ، تهدفان إلى غاية إصلاحية غرضها الجمع بين نقاء الدين وبين تأثيره وقدرته ، في محاولة للجمع بين التراث والتجديد لإيجاد حلٍّ لعصرنة الدين . ان نظرية القبض والبسط تنظر إلى المعرفة الدينية كواحدة من المعارف البشرية ، فهي كأي معرفة ، حصيلة جهد البشر وتأملهم ، وهي دائماً مزيج من الآراء الظنية واليقنية ، ومن الحق والباطل ، ولا مجال لإنكار تطور هذه المجموعة وتكاملها .هذه النظرية لا تقول إن الوحي الذي أتى به الأنبياء يكمًله البشر ، إنما تقول إن فهم البشر لمفاد الوحي يتطوَر . فالمعارف البشرية غير الدينية مثل فهم البشر للطبيعة والوجود، والعلم والفلسفة.

 

يطرأ عليها التحوَل والقبض والبسط ، لذلك تتحول المعرفة الدينية تبعاً لها ويطرأ عليها القبض والبسط . ففهمنا لكل شيء ، بما في ذلك الشريعة – في سيلان دائم ، واذا حصل في جانب المعارف البشرية الموَاج تحوَل أو تغيَر ، ترك هذا التغيير بصماته على الجوانب الآخرى ، ولعب دوراَ في اثبات أو دحض مسائل أخرى . اما بيت القصيد في نظرية بسط التجربة النبوية ، يتمحور حول تأثير شخصية النبي البشرية في عملية التشريع ، والتجربة الدينية ، ودور ولايته في استمرار ظاهرة التديّن ، ويعتقد سروش أن الثقافة الإسلامية والعرفانية تؤكد كثيراً على الأهمية السماوية لشخصية النبي ، وتهتم بالجانب الباطني لمقولة النبوّة، وتسحق الجانب الأرضي على حساب الجانب السماوي ، وتُهمل النصف البشري على حساب النصف السماوي . ويرى أن الفراغ المعرفي في الثقافة الدينية الإسلامية يتركّز حول معرفة النصف الأرضي من شخصية النبي ، وكيفية إدارة السلوك الإجتماعي مع جماعته وقومه تحت سقف التاريخ ، وفي سياق ثقافة عصره . فالنبي كان يتحدّث بلسان قومه ويبتكر الحلول للتحديات والمعضلات التي تواجهه ، وفي الوقت عينه يستلهم الوحي من السماء . ويؤكد في نظريته على نقطة أساسية ، أنه بالرغم من أنّ المُقوّم الأساسي لشخصية ونبوة الأنبياء هو “الوحي” أو “التجربة الدينية” في الإصطلاح الجديد، إلا “أن التجربة الدينية نفسها لا تجعل من الشخص نبيّاً ، ومجرد رؤية الملك ، أو شهود عالم الغيب، لا يُحقق حالة النبوة في الإنسان” . فالوحي ظهر لمريم ، وأهدى إليها عيسى ومع ذلك فإن مريم لم تُصبح نبيّة . فالوحي والرسالة تابعان لشخصية النبي ، وليس النبي تابعاً للوحي ، وليس النبي تابعاً لجبرائيل ، بل جبرائيل تابع له . اما كتاب الصراطات المستقيمة فيعدّ من ابرز طروحاته ، يناقش فيه إشكالات دقيقة تتعلّق بمسألة الدين والتعددية الدينية والثقافية وينطلق سروش من مقولة “جون هيك” اللاهوتي البريطاني، في تأسيس التعددية الدينية أو الصراطات المستقيمة ويعتبر سروش إن المجتمع المتعدد هو المجتمع غير المتأدلج ، أي الذي لا يوجد فيه تفسير رسمي، ومفسرون رسميون . وهو مجتمع قائم على عقل تعددي ، لا على طائفة أحادية ، يبدأ هذا المجتمع حينما يعرف الجميع فيه أن الأصل في عالم الطبيعة والإجتماع هو الكثرة لا الوحدة، محاولة لتوفير نموذج واحد للحياة، والدين، واللغة ، والثقافة ، والأخلاق، والعادات والأداب الإنسانية ، يفسّر الإيمان الديني بالحالة الروحية وعدم كونه من مقولة الأفكار الذهنية ،فلذلك يرى أن كل إيمان هو من جنس واحد ، بحيث ان ايمان اليهودي باليهودية ، والهندوسي بالهندوسية ، والمسيحي بالمسيحية ، وايمان المسلم بالإسلام هما من جنس واحد ولا فرق بينهما . فالإسلام وكأي دينٍ آخر ، هو إسلام بذاتياته لا بعرضياته، والمُسلم الحقيقي هو الذي يعتقد بالذاتيات فقط .

 

فماهية أو ذات الدين ليست ماهية أرسطية بل إن الشارع يتحرّك نحو مقاصد معينة وهذه المقاصد تُمثِّلُ ذات الدين، ومن أجل إظهار هذه المقاصد، وتجسيدها على أرض الواقع الإجتماعي فإن الشارع يستخدم : لغة خاصة – مفاهيم خاصة – أساليب ومناهج خاصة ” الفقه والأخلاق” – وهذه الأمور تقع ضمن: زمان معيّن – مكان معيّن ” محيط اجتماعي وثقافة خاصة ” – يتوجه الخطاب لقوم معينين يعيشون حالات بدنية وذهنية خاصة بهم . ويكون ابلاغ الشريعة ضمن: ردود الفعل المتحركة في الساحة الاجتماعية – طرح أسئلة معينة وصوغ الأجوبة على غرارها – الأشخاص الذين يصدقون ويؤمنون والأشخاص الذين لا يصدقون ولا يؤمنون بهذه التعاليم – المناسبات الخاصة والحروب والتمدّن على الساحة العلمية – الأشخاص الذين يتحرّكون على مستوى فهم وبسط التجربة الدينية أو تخريب وإضعاف هذه التجربة . وهذه العرضيات المتضخمة تختزن في داخلها ذات الدين الاصيلة ومن اجل الكشف عن تلك الذات وتلك الجوهرة ليس هناك طريق سوى ازالة القشور وتمزيق الحجب. ومعرفة هذه القشور والعرضيات وتمزيقها يتوقفان على تفكيك الجسد التاريخي للدين ، وفرز التعاليم الدينية من غير الدينية . يقول سروش : ” لا التشيّع هو الاسلام الخالص ، ولا التسنن ، ولا الأشعرية هي الحق المطلق ، ولا الإعتزال ، لا الفقه المالكي ، ولا الفقه الجعفري ، ولا تفسير الفخر الرازي ولا تفسير الطبطبائي ، لا الزيدية ، ولا الوهابية ، لا كافة المسلمين في معرفة الله وعبادته خالون من الشرك ، ولا قاطبة المسيحيين إدراكهم الديني خالٍ منه ، كلا بل لقد ملأت الدنيا الهويات غير الخالصة ، فلم يتربع الحق في جهة من الجهات دون أخرى لتكون باطلاً محضاً ، وعندما نذعن لهذا الأمر فسوف يتسنى لنا هضم الكثرة بشكل أفضل “. انه مفكر يطمح إلى شقّ طريق نحو نوع جديد من التعامل مع التراث الإسلامي ، فقدّم قراءات تستجيب في آن واحد للشروط العلمية التي يفرضها العصر اليوم ، ولأفكارنا الإيديولوجية التي تحركنا نحو التراث. فاعتبر واحداً من أبرز الوجوه والأصوات التي أسست ما يسمّى “علم الكلام الجديد” الذي يدرس الدين من خارجه ، موظفاً الإمكانات السوسيولوجية المعاصرة ونظريات التأويل في تفسير الدين ، ونشأته، والتعامل مع الوحي والنص الديني . حيث تناول القضايا الدينية لا بوصفه رجل دين مختص بل بوصفه متديناً من خارج المؤسسة الدينية يرفض أن تحتكر السلطة الدينية أو تحصر في طبقة أو فئة .

 

ومن المحتمل أن يكون قد هدف في نظرياته الدينية عموماً ونظرية الصراطات المستقيمة خصوصاً ، إلى تأصيل التعددية وشرعنتها الدينية لتحقيق التعددية السياسية والإجتماعية .

السابق
ماذا لو..؟
التالي
الحشيش يؤثر على خصوبة الرجال