الفراغ يناديكم

شغور الكرسي الرئاسي اللبناني هو إضافة جديدة على فراغ مزمن، نتيجة منطقية له. الفراغ مثل كل مظاهر الحياة، يتوالد، ينتعش، يستوطن، يتسرّب، لا شيء يوقفه عندما تنطلق آلته… لا شيء، حتى الثورة عليه أو الغضب، أو تأليف الجمعيات أو إختراع الفعاليات التي تدينه، وحتى البحث المعمق في “أسبابه”؛ وهذه الأخيرة، أي الأسباب، لها بدورها تاريخ معقد وطبقات على بعضها، وجذور بعيدة، ونظام راسخ، وفنون فتك جهنمية، تشبه القنابل العنقودية، لا تنفجر دفعة واحدة، ولا في مكان واحد. قنابل يمكن أن تجدها في أبعد الزوايا، أكثرها براءة أو ظلمة.

            الفراغ غياب لشيء حاضر وهمياً. غياب لكيان شبحي، حائم فوق الرؤوس، أو حول الجسد، لا ينزل إلى الأرض الإنسانية، ولا يحاول. غياب ليس فقط للدولة، وهي المآل الأخير لكل النقّ السياسي. يتنهّد اللبناني من مصائبه، يكاد لا يضحك من فرط كوميدياه المكررة، يسلم أمره للهواء الطلق، يسرع الخطى، ويسأل، من دون إنتظار الجواب، يسأل للتأكيد على الغياب “ويْنِيّ الدولة؟”. غياب الدولة، وغياب المجتمع. شيء من الفقدان مع هكذا غيابَين، ليس كله وجداني أو معنوي. جله الآن صار إحساساً جسدياً، مثل فقدان اليد أو الرجل أو العين… من يخسر أحدهما يعيش بقية عمره تحت وطأة الشوق اليومي للعضو المبتور، لشدة ما هو ثقيل شبحه.

            الفراغ هو حضور العجز، وتسلّله إلى اليوميات الدقيقة، بعدما أنهك اليوميات الأكثر أهمية، الأكثر مصيرية. لا أنت ولا “السياسيين”، أو الأحزاب أو الجمعيات، أو الشخصيات المحترمة، قادر على إنتخاب رئيس جمهورية أو برلمان أو التشريع لقوانين مفيدة أو إصدار قرارات أو تنفيذها. مهما كانت النوايا، مهما كان الذكاء، أو “القوة”… على المقدار نفسه، لا تستطيع وقف الدراجات النارية في المدينة التي لها، بعد النواب، بلدية وأعضاء بلدية. ليس بوسعكَ أن توقف النزهات الليلية المنظمة لتلك الدراجات، بالضجيج المنفجر الذي يفتعله سائقها الأرعن، الكفيل بكسر ليْلك مرتين أو ثلاث أو أربع، لتفهم أنت النائم، الهارب من مصائب النهار وتلوّثه، بأن بطلاً نارياً مرّ من هنا… هل يمكنك إيقافه؟ إذا قلت “لا” وإذا قلت “نعم”، فالأمر سيان: لا جدوى من أي إرادة، لا جدوى… إلا من قرار خارج عنها، هذه الإرادة.

            الفراغ هو الضجر، هو ذاك الضيق الذي يصيبك عندما ترى وتسمع ونقرأ ما قاله أعظمنا، مثل أتْفهنا. تلك الكلمة أو الوقفة أو اللهجة أو النظرة، التي لا تنتبه إلى أن خشبة مسرحها ضاقت ذرعاً بإعادة المسرحية كل يوم، كل ليلة. ليس ضجراً من “السياسيين” بالضرورة، إذ يمكن أن تجد من بينهم من عرف كيف يملأ فراغ التكرار بكلمات خارجة عن المتعارف عليه من تذويقات. لا شيء يضجر قدر هذه التذويقات. وخصوصاً تلك الصادرة عن أصحاب المشورة، المتنطّحين للمسؤولية السياسية.

            يترتب على الضجر، أو يرافقه، ضياع معاني الأشياء والكلمات، وهذا وجه من وجوه الفراغ. لو أردنا إحصاء قشور الطبقات الرقيقة المتراكمة التي يتشكّل منها هذا الوجه، لما انتهينا… خذْ أي كلمة أو نبرة أو وقفة أو شعار أو قبضة: ما معنى مثلا الشرعية أو المصالح أو المؤسسة، أو السيادة أو التحرير؟ ما معنى أن تكون زلات اللسان أو قراءة الغيب على الشاشة هي التي تتصدر مصادر وحينا السياسي؟ ما معنى الإنتصار ضد إسرائيل؟ أو الإنتصار ضد الدولة؟ ما معنى وقفة الشرطي هنا، في زحمة سير خانقة، يلعب بـ”الواتس آب”، أو يدخن السيجارة تحت فيء شجرة وارفة؟ نادرة هي الأخرى…؟

            المعنى الوحيد هو العبث، مخالفة كل من العقل والمنطق والذوق. إنعدام الذوق، في كل مكان، في العمارات المتلاصقة، المعتدية على بعضها، بشرفاتها المزججة، المغلقة على نفسها، كأنها في صحراء العصر. عمارات تغلق على هواء البحر، الملوث بدوره، لا تثق بالفصول، ولا بألوانها. أما عن مخالفة العقل، فأي عقل؟ أي منطق؟ ما أن تلتقط خيطاً من خيوطهما، وتكاد أن ترسم الصيغة الواقعية الميدانية للمنطق، حتى يخترع “العقل” السائد خيوطاً جديدة، وأوهاما بصرية لا تحصى. مثل تلك الحشود “العفوية” التي زحفت بالآلاف إلى السفارة السورية، لتنتخب رئيسا يتحمس له لبنانيون عطلوا إنتخاب رئيسهم. حشود تكلّلها نظريات تقول بأن النظام السوري أفضل من النظام اللبناني، ويجدر تحطيم الثاني بقبضات من حديد، وحماية الأول برموش العين…

وبأن الفراغ يناديكم، أيها اللبنانيون.

السابق
هيئة التنسيق تردّ على وزير التربية: ما في امتحانات رسمية
التالي
وجيه قانصو: تلبّس الثقافة بالأيديولوجيا جعلها عاجزة