عودة ’الجيوش المنقِذة’

من مصر إلى تايلاندا “المستغيثتين” بجيشيهما، إلى الجزائر المستقرة تحت وصاية المؤسسة العسكرية، إلى سوريا حيث المؤسسة العسكرية الأكثر فعالية داخل الحرب الأهلية، إلى ليبيا التي يطل ضبّاطٌ للعب أدوار من داخل حطامها… ما الذي يعيد الدور السياسي القيادي للجيش مرةً أخرى؟

تأخذ عودة المؤسسات العسكرية للعب دور في الصف الأول على المستوى الوطني في عدد من البلدان العربية شكْلَ المواجهة مع تيارات الإسلام السياسي ولاسيما “الإخوان المسلمين”. في مصر وفي سوريا المعركة واضحة جدا، في الجزائر علينا أن نطرح السؤال الذي يحمل جوابه بذاته عن القوة المسيطرة والمستقرة للمؤسّسة العسكرية التي تجعلها تتخطّى بنجاح بل بثقة استحقاق الانتخابات الرئاسية الأخير فتدعم التجديد للرئيس عبد العزيز بوتفليقة دون حساب كونه ليس فقط مُجدّداً له لعدة مرات بل أيضا- عافاه الله- أصبح مريضا جداً.
اعتباراً من نهاية الأربعينات من القرن العشرين صعد ضباط الطبقات الوسطى العربية إلى السلطة حاملين مشاريع “تطوير الدولة” وتغيير المجتمع يساعدهم في ذلك أساساً فشل سياسيّي الأريستوقراطيات والبورجوازيات التقليدية في الدفاع عن المسألة الوطنية التي كان محورها القضية الفلسطينيّة ومنعطفها الهائل عام 1948.
اليوم تغيّرت الأزمنة وتغيّرت الأدوار. لن يقوم العسكريون وغالبهم من الأرياف بانقلاباتهم باسم رفض فساد السياسيين وتبعيّتهم للاستعمار، بل أصبحت المهمة مختلفة: إنها حماية البلد من التفتت والحرب الأهلية. هذه هي المهمة التي ستراها غالبية الشعب المصري مهمة نبيلة تستحق الدعم والتأييد. وهذا هو الموقف الصارخ بعدم التباسه في مصر والجزائر، مع فارق أن الجيش في الأولى منع الحرب الأهلية وفي الثانية استعاد زمام الأمور بعد خوضه ثم ربحه حرباً أهليّة ضارية.
في سوريا، قلب بلاد الشام، الصورة أكثر تعقيداً. فالجيش الممسك طويلاً بالسلطة والمتصارع من داخله بهويات حزبية عنوانها الأول حزب البعث وبهويات غير معلنة جهوية وطائفية سيكون في قلب حرب أهلية باردة معظم الأحيان وساخنة في قليلها منذ عام 1958 وخصوصاً بعد عام 1970. لكن تعقيد التعقيد في سوريا سيظهر مع إثبات الفئة الحاكمة أنها وإن كانت أقلية، فهي قادرة على بناء تحالف متماسك من نخب أحزاب وطوائف، وسيكون من المدهش بعد حرب طاحنة في السنوات الثلاث الأخيرة أنها تحتفظ بقدر جدّي من التماسك على مستوى الهيكلية الإدارية والديبلوماسية للدولة… لم يعد ممكناً نكرانه. بالمقابل فإنه بعد كل الذي حدث في سوريا ورغم تحوّل الثورة المدنيّة الشبابيّة “الربيعية” إلى حروب تفتّتية ضروس بفعل عنف النظام في البداية لكن الأهم بفعل قرار غربي متسرّع (وخبيث) بعسكرة الثورة… لا زال دور الجيش أساسيّاً في سوريا ولو بشكل أقل مقبولية أو أكثر إشكالية من جيوش أخرى باستطاعتها القول والممارسة أنها تحمي السلم الأهلي. لهذا فإن صياغة سوريا جديدة في السنوات المقبلة لا تستطيع أن تتجاهل ما يعنيه الجيش ولكن لا يمكن أن ترتسم داخل إطاره السياسي وحده في الآن معاً.
هل علينا أن نوجّه أبصارَنا خارج العالم العربي وخارج العالم المسلم لنرصد عودة دور الجيوش في بعض الدول كتايلاندا مؤخرا وبعض دول إفريقيا؟ والسؤال الآخر المتصل: هل تراجعت الموجة الغربية الرافضة للحكم العسكري والداعية بل والمساعِدة على التحضير لقيام سلطات مدنيّة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية “الحرب الباردة”… كما حصل في ميانمار وتركيا ولاحقا ليبيا مع الفروق الجوهرية في أوضاع كلٍّ منها والنتائج التي ترتّبت على ذلك؟ واستطراداً هل تعيد كارثة تحلّل الدولة الليبيّة “تركيب” بقايا الجيش الليبي؟ أما في تركيا التي هي دولة إقليمية كبيرة وعلى مستوى تنموي وتحديثي متميّز عن محيطها المسلم، فإنه سيتوقف على مدى قبول الحزب “الإسلامي” الحاكم لعملية انتقال سلس سلمي للسلطة في المستقبل، عدم عودة الجيش إلى دور سياسي.
أيا تكن السيناريوات مختلفة بين بلدٍ وآخر، فالمعيار المتاح هنا أنه حيث يفشل المجتمع، وخصوصاً نخبَه، في ممارسة سلمية للديموقراطية عاد دور الجيش في التقدم … هذه المرة لحماية السلم الأهلي.
إنها إذن أزمات العجز الديموقراطي بنسب وأوضاع مختلفة.

السابق
الأمراض العقلية تقصر العمر
التالي
محفوض: هل صدفة أن يحدث الشخص ذاته الفراغ في 1988 و2007 و2014؟