ثقافة الاعتدال أمام تحديات التطرف

ثمة سؤال يلح على اللبنانيين اليوم: هل يستطيعون الخروج مما هم عليه بإمكانياتهم الذاتية؟

الصراع في المنطقة وفي لبنان هو باختصار بين بن لادن والولي الفقيه وبين أتباعهما. وهذا الشيء يعرفه اللبنانيون، ولكل من الفريقين تتوافر إمكانيات كبيرة وأموال كثيرة لا تتوافر لأي من القوى الأخرى لأنها امتداد لمحاور تدعمها دول غنية وإمكانات سياسية وإعلامية قوية.
التطرف يغذي التطرف، وهذا مسار جهنمي قد لا يستطيع لبنان الذي قام على قاعدة التسوية والاعتدال تحمل نتائجه. فإزاء ضعف الدولة تقوى هاتان الفئتان. والأفق مسدود الآن لمعرفة المسار الذي ستتجه فيه الأمور. تعمل القوى المعتدلة داخل الطوائف اللبنانية على جبه هذا التطرف ولكن بأساليب محدودة، ويسعى المعتدلون إلى تسويق أطروحة العودة إلى الدولة لأن فيها الخلاص للجميع وللبنان.
تساهم وسائل الإعلام في تجييش التطرف باستضافة المتطرفين على الشاشات الذين ينفثون سمومهم ويتأثر المجتمع بهم. وتحجب هذه الشاشات أصوات الاعتدال من الظهور. وإن ظهروا، فعرضاً وفي ساعات تخف فيها نسبة المشاهدين.
لقد كانت ميزة الطائف لفترة أنه جعل تجارة الحرب تجارة خاسرة. أما اليوم، فإن الاعتدال تجارة خاسرة والتطرف يستجـلب الأموال والإمكانات. إن السياسة في لبنان business، وكذلك الطائفية والتطرف اليوم. الناس تشكو من قلة الموارد والدولة مستباحة منهوبة والأموال هي لدى المتطرفين. فظاهرة الأسير مثلاً، توافرت لها الأموال بسرعة قياسية مكنته من القيام بحركته قبل أن يقمعها الجيش. الإمكانات المالية متوافرة لدى القوى المتطرفة، ويقابلها ضيق ذات اليد لدى المعتدلين، الذين لا تمكنهم أوضاعهم من دفع رواتب العاملين لديهم. أما محاور باب التبانة ـ جبل محسن فناشطة، وهل تبقى كذلك إذا جفت موارد الممولين!
لا يمكن الخروج من هذا النفق إلا بعودة الجميع إلى فكرة الدولة وإلى روح الميثاق الوطني المبين في مقدمة الدستور، والتي تشكل مفاصل الوفاق الوطني. يمكن الخروج بوقف الإمدادات المالية وتجفيف منابع المال التي تأتي إلى هذه الفئات. لا يستقيم الوضع إلا بدعم الجيش لقمع المتطرفين والسعي لتحقيق وفاق إقليمي يخلص لبنان من هذه المحنة. الحاجة ماسة إلى إعادة الوعي بفكرة لبنان التي قامت أساساً على الاعتدال ومبدأ التسوية. وإن لم تستوعب القوى المتطرفة السائدة على الساحة السياسية والمجتمعية انها لا تستطيع فرض خياراتها على سائر الفئات، فإن لبنان معرض للانفجار، ليس فقط أمنياً، بل كيانياً أيضاً. إذ كيف يمكن أن تقبل طوائف أساسية، فضلاً عن المجتمع المدني، طروحات مجتمعية وسلّم قيم غريباً للسيادة عليها. إن «الطائف» هو آخر وثيقة وطنية استطاع اللبنانيون التوصل إليها. إذ جاءت في ظروف غير متوافرة الآن لإنتاج بديل منها. و«الطائف» هو آخر وثيقة للبنان الموحد، إذ إن الخيارات ليست كثيرة في حال سقوطه، فالتقسيم والفدرلة بدائل إجبارية. لذلك فإن تطبيق اللامركزية الموسعة التي نص عليها «الطائف» وإنشاء مجلس الشيوخ قد يكونان السبيل الأنجع لتفادي الوصول إلى الخيارات الإجبارية، إن هي ترافقت مع خطوات إصلاحية أخرى ضرورية لا مجال لاستعراضها هنا.
هل تستكين قوى الاعتدال أمام تحديات التطرف؟
الرهان هو على هذه القوى، وهي دعوة لها للدفاع عن فكرة لبنان المتنوع والقابل للاختلاف. ولكن الدعوة أيضاً موجهة إلى قوى التطرف لاستدراك إقحام نفسها وجماعتها في نزاعات لا تنتهي.
إذاً الصراع أضحى صراعاً بين الاعتدال والتطرف. يملك المعتدلون تاريخاً في لبنان حافلاً بالإنجازات التي تحققت لاستمرار الحياة المشتركة وصيانة السلم الأهلي. المتطرفون مستجدون على الساحة اللبنانية والتطرف ليس سمة راسخة في المجتمع اللبناني، لذلك، فهو عنصر طارئ غذته الأحداث في الإقليم ابتداءً من العراق إلى سوريا إلى اليمن، وقبل ما يجري في فلسطين المحتلة وبعده من قبل قوات الاحتلال لناحية تغيير هوية الشعب والدولة، إذ إننا إزاء مشروع يهودية الدولة الذي يعطي ضوءاً أخضر لدول أخرى كي تحذو حذوها.
لقد تصاعدت لغة الاتهام لمجموعات وصفت بالتكفيرية المتطرفة. ولكن الممارسات الأخرى التي ترعاها دول ليست أخف وطأة من هذه، وإن بأساليب أدهى وأذكى، ولكن النتيجة واحدة. فالتطرف ترعاه دول وتغذيه أطاريح (مقولات) تلبس لبوساً دينياً، هي في نهاية الأمر جزء من الصراع السياسي لتغيير هوية بعض الدول من الطابع المدني إلى الطابع الديني على مذاهب شتى.. ولكن النتيجة واحدة.
لبنان لا يحتمل مثل هذه المقولات. لا يحتمل نموذج طهران ولا الرياض ولا باريس، بل يحتاج إلى إعادة الاعتبار للنمط اللبناني الخاص في الحياة المتنوعة والقابلة للاختلاف. وعلى صعيد النظام، إعادة الاعتبار لوثيقة الوفاق الوطني وإعادة بناء الدولة وفق مقتضياته، وإن احتاج الأمر إلى بعض التعديلات في بعض الآليات. ولكن الضمانة هي في الدولة، والسؤال الذي يقض مضاجعنا: هل بإمكان القيمين على الأمور في لبنان المرتهنين إلى الخارج لتحقيق أجندات غريبة، إنجاج التجربة والعودة إلى لبنان؟ هل يسمحون بإقرار قانون انتخابي يمكّن الشرائح الواسعة والمتنوعة الممنوعة من الوصول إلى المؤسسات التمثيلية من الوصول، أم أن الطبقة السياسية ستبقى تنتج في كل مرة نفسها بتدهور مطّرد في اختيار الممثلين؟ هل يمكن وقف مسار تفشيل الدولة الذي ينتهجه بعض القوى والسياسيون؟
لا شك بأن الضمانة تبقى في الحراك الذي يقوم به المجتمع المدني. لعلنا نتفاءل!!

السابق
علم بطول 230 متراً في صور
التالي
عون يعتذر عن عدم المشاركة في جلسة الحوار