تغيّر سلوكيات أهالي المناطق المستهدفة ليس مرضياً ولكن..

عاد عباس من مدرسته في بئر العبد. جمع ابن السنوات العشر أشقاءه الذين يصغرونه سناً، وقبل أن يتناول طعام الغداء، طلب من أبيه أن يشتري إطفائية للمنزل، ومن أمه أن تتصل بأقرب محل لابتياع النايلون اللازم لتثبيت زجاج النوافذ. وزّع على عائلته تعليمات واضحة بشأن التصرف في حال وقوع انفجار. أنجز ما اعتبره مهمته، وجلس يرتاح.

كان عباس قد خضع للتو في مدرسته لمناورة ترشده وأقرانه إلى كيفية التعاطي مع ظروف أمنية أصبحت، على ما يبدو، من عاديّات الحياة في الضاحية.
يظهر تأثير الظروف المستجدة في شوارع حارة حريك وبئر العبد والرويس أكثر من غيرها. يكثر هناك عدد المحال والمصارف التي زنّرت أرصفتها بدشمٍ من أكياس الرمل، والمطاعم تعلن عن قيامها بلصق النايلون على واجهاتها تجنباً لتشظيها لدى وقوع أي تفجير.
لم تكن الإعلانات عن شقق للإيجار شائعة قبل ما حدث. بات العرض اليوم شائعاً مع قرار بعض السكان بالنزوح عن المكان.
في حي السلم، يعلن أكثر من محل عن حاجته لموظفة بعدما تركت البعض أعمالهن. من بين هؤلاء، قدّمت معلمة مدرسة استقالتها من وظيفتها لأنها مضطرة إلى أن تمرّ في معظم شوارع الضاحية لتصل من بيتها في بئر العبد، إلى أرض جلول بالقرب من منطقة صبرا.
الحي هو نفسه الذي كانت تستعيذ فيه فاطمة بالله من مشوار التسوق بسبب الزحمة الخانقة على عربات الخضار وفي محال السلع الغذائية: «كنت تنتظرين نصف ساعة حتى تزني كيلوغرام البندورة». لا يمكن لحركة الناس في مكان كحي السلم أن تنتهي، لكنّها «خفت بنسبة خمسين في المئة على الأقل»، تقول.
الغالبية تشكو قلة البيع، وخصوصاً محال الأحذية والألبسة والأدوات الكهربائية: «الناس عم تشتري المواد الغذائية الضرورية». وحدها أعمال محمد، موزع الإنترنت، ازدهرت نسبياً: «الناس المشتركة بالإنترنت عم تزيد، بدهم يتسلّوا ببيوتهم».
طريق الحدث – الحازمية يشهد زحمة يومية. كثيرون غيروا طرقهم، قاصدين الأقصر لمغادرة الشوارع والمناطق المستهدفة.
حصرت لميس تبضع الضروري من الحاجات بنفسها. قالت لأبنائها وزوجها: «ما حدا منكم بينزل على الشارع».

الشعور بالخطر
محمود صار قليل الكلام. يعود الرجل الخمسيني إلى بيته مساء، يشاهد نشرة الأخبار، يستعيذ بالله، ويخلد إلى النوم. عبثاً تجهد عائلته في اختراع أحاديث تجذبه إلى الكلام. يخافون على قلبه المريض من كتمه مشاعره، ومن الغضب البادي على محياه.
قلوب الأمهات لا تعرف الراحة إلا بعد عودة جميع الأبناء من الخارج. أصبح لقاء أفراد العائلات متاحاً أكثر من ذي قبل. كثيرون يعيدون اكتشاف سهراتهم العائلية بعدما بات الخروج من المنزل محصوراً بدواعي العمل والضرورة فقط. فاتن واحدة من هؤلاء. تقول السيدة الستينية إنها تعيد بناء علاقتها بابنتها بعدما اختصرت الأخيرة «ضهراتها» إلى الحد الأدنى.
تقول حنان إن صالون المنزل المطل على الشارع العام «فقد وظيفته». صار الناس يفضّلون الغرف الداخلية، وخصوصاً في الطوابق السفلية. هي نفسها حوّلت غرفة ابنتها إلى غرفة جلوس بعدما أقنعتها بالنوم في غرفة أشقائها. تسكن حنان في الطابق الثالث من أحد المباني المطلة على بئر العبد.
الهاجس نفسه يعيشه سكان الهرمل المستهدفة كما الضاحية. تقول صفاء إن مشهد بعض المحال التي تحاول ان تحمي نفسها عبر أكياس الرمل أو المكعبات الإسمنتية يبعث على الشعور بالخطر الداهم. الهرمل التي ذاقت ثلاثة تفجيرات، تغيرت، ومعها تغير مزاج ناسها وعاداتهم وسلوكياتهم.
تخاف فوزية على عائلتها كثيراً، لكنها وصلت بينها وبين نفسها إلى تسوية تخفف من «نيران قلبها» المستعرة كل الوقت. عاشت فوزية الحرب الأهلية و«نجونا». كانت في إحدى المرات محاصرة مع أربعة من أشقائها في مكان واحد. كانت القذائف تدّوي في جدار المكتب الذي كانوا مختبئين فيه، «ونجونا»، تقول.
أقنعت نفسها بأنّ تسلم أمرها إلى الله، كما يفعل بعض من تعرفهم. هؤلاء يقولون «لا يموت إنسان إلا لمّا بيخلص عمره». هي فقط وصلت إلى هذه التسوية لتتمكن من إكمال حياتها، من دون ان تهمل اتخاذ ما يمكن من إجراءات، ومنها عدم التجول إلا للضرورة.
رانيا فعلت الأمر نفسه. تسكن صديقة عمرها بالقرب من مجمع سيد الشهداء، وعليه توقفت عن زيارتها. صارت لقاءاتهما هاتفية. قال لها زوجها وأولادها «إن لم تفكري بنفسك فكري بنا». رانيا وعائلتها ألغوا ايضاً لقاءهم العائلي الإسبوعي في منزل أهلها «صرنا نلتقي مرة في الشهر فقط».
خضع كريم لتوسلات أمه وخطيبته وغيّر الطريق التي يسلكها يومياً. صار يخرج من الرادوف في برج البراجنة إلى الحدث فمستديرة الصياد ومنها عبر الأوتوستراد إلى رأس النبع فالصنايع حيث يعمل. كان يلزمه خمس دقائق ليكون على طريق المطار. طالت رحلة عمله اليومية «نصف ساعة».
مع التغييرات السلوكية النابعة من شعور بالخوف والقلق والتوتر، يضع الطبيب النفسي جوزف خوري «رد فعل الناس في الضاحية والهرمل في إطارها «الطبيعي»، ليقول «كل هذه التغييرات «طبيعية ومستحبة»، إذ لا يعقل أن نتصرف وكأن لا تهديد موجوداً فيما هو موجود فعلاً».
يرى خوري أن المشكلة تكمن لدى المبالغة في رد الفعل مقارنة مع حجم التهديد. كأن يغيّر مواطن من سلوكياته اليومية فيما هو بعيد عن دائرة الخطر، لأنه تأثر بما يحصل بعيداً عنه. طبعاً لا يشمل ذلك المواطنين الذين توقفوا عن الذهاب إلى الضاحية لأنّه من «الطبيعي أن يشعروا بالخطر هناك كون المنطقة مستهدفة».
ويردّ خوري تصرفات المواطنين في الأماكن المستهدفة إلى «النظام النفسي الموجود عند الإنسان بالخلقة». وهو نظام موجود عند كل منا «بغض النظر عن السلوك الاجتماعي والرؤية الدينية والنظرة إلى العالم».
ونحن نستعمل هذا النظام في يومياتنا، وعليه «تتبلور ردود الفعل على كل ما يؤشر إلى وجود خطر ما، إما عبر الهروب أو عبر المواجهة». إلا أن رد فعل نظامنا النفسي على الإرهاب الذي طرأ على يومياتنا وتفكيرنا، وفق خوري، اختلف، لأن ما يحصل راهناً مختلف تماماً عن الحرب الأهليّة، وحتى عن انتشار ظاهرة السيارات المفخخة، فاليوم، «نحن نواجه انتحاريين».
يعتبر خوري أن «الإرهابي»، لدى استهدافه مناطق من دون سواها، «يبني فكرة مغلوطة عند الناس»، تكرّس فكرة الشرخ بين سكّان المناطق المستهدفة وسكان المناطق الأخرى». وبرأيه، فإنّ لزرع هذا الإحساس وتعميقه هدفاً واضحاً يفيد بشعور المواطن أنه مستهدف ومهدد بينما الآخر ليس كذلك».
وهكذا،، يشعر «قسم من الناس أنهم غير محميين وأن سواهم محمي، وبأنهم غير مرتاحين فيما غيرهم يعيشون حياتهم بشكل طبيعي». ومع الوقت، سيشعر القسم المهدد ومن تلقاء نفسه، بأن هناك «مشكلة ما وسيسأل نفسه لماذا أنا مهدد وأنت لا؟»، وهو ما «يقسّم الشعب أكثر من أي خطاب سياسي»، وفق خوري، و«هو جزء مهم من «إستراتيجية الإرهابي، يتم اللعب عليه سياسياً ونفسياً».
ويشرح خوري أن وضع الناس خلال الحرب يكون مختلفاً «إذ يعرفون أن للحرب جولات، تتخللها هدنة أو انخفاض في وتيرة الأعمال الحربية». لكن، مع انتشار الإنتحاريين والإرهابيين «يستمر الخوف كل الوقت، العمليات الانتحارية يمكن أن تقع كل ستة أشهر، فيما يمرّ الوقت المستقطع بالتهديد، وهو ما يكفي ليُبقي شعور المواطنين بالتهديد والخوف».

الابتعاد عن الكآبة
لكن، كيف يجب التعامل مع ما يحصل؟
«يجب أن يبقى ميكانيزم الخوف، والإحساس به موجوداً»، يقول خوري، إذ «لا يمكننا أن نتصرف وكأنه ليست هناك مشكلة وعلينا أن نتفهّم الخائف، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نبحث في تقوية المجتمع المهدّد ليتمكن من الصمود والاستمرار». يضيف إن وضع الدشم وأكياس الرمل «على بشاعته يسمح لنا أن نتحرك بشكل طبيعي، خصوصاً إذا شيدت بطريقة تسهل الحياة اليومية».
ويدعم خوري الإجراءات الأمنية المستجدة، مطالباً الناس بـ«تفهمها، لأن الخيار الآخر هو إما الهروب من المناطق المستهدفة، أو البقاء في المنازل، وهو ما يدمر الحياة بمختلف أوجهها، وهذا ما يريده الإرهابي».
أما الذين عاشوا الحرب الأهلية فسيتأثرون أكثر من غيرهم، كما يقول خوري، «لأنهم يعرفون تماماً كم تعب اللبنانيون ليخرجوا منها، وها نحن نعود إليها».
ويميّز خوري بين ما حصل في عدوان تموز 2006 وبين اليوم. «يومها كُنّا أمام عدو لديه حساباته وموازنته وقدرته على الاستمرار بالحرب محكومة بجملة ظروف، منها الضغوطات الدولية». أما اليوم، فالإرهابي ليس عقلانياً، وهو متفلت من الضوابط كلها.
ومع تبريره لتغيير الناس سلوكياتها ولشعور المواطنين بالخوف، يشدد خوري على ضرورة «الابتعاد عن الكآبة، إذ يمكن لما يحصل أن يكون مرحلة زمنية وستنتهي في حال عرف الساسّة أن يبتعدوا عنها، لأننا لم نعد بعد إلى حالة ثبات (الستاتيكو) لا خروج منها».
ويرى خوري أنه «ليس من الممكن التعامل مع ما يحصل على أنه ثانوي»، مشدداً على ان «لا علاقة للأمر بجوّ المقاومة وجمهورها وتعوّده على الحروب، وإنما بسؤال أساسي: هل هناك نهاية لما يحصل أم لا؟». فالحفاظ على فسحة الأمل، واعتبار أن ما يحصل سينتهي ولن يستمر «هو الأساس، وهو ما حصل حتى الآن، ولكن لا أدري كم يمكن للوضع أن يصمد على هذه الحال، فحينها ستتفاقم المشكلة».
ويمكن لحصول تفجيرات في أماكن أخرى، غير تلك المستهدفة، أن يخفف من ثقل ما يحصل، وفق خوري، «ولكن الإرهابي لن يفعل ذلك، إلا في حال طرأ تغيير تكتيكي على مقاربته للصراع».
وبذلك، يعتبر أنه يتعين «على القوى السياسية أن تعطي رؤوس أقلام للناس ليعرفوا إلى أين هو ذاهب، وأن تشتغل على الوضع النفسي لأنصارها وأن تعطيهم أملاً». ولا يكفي القول «نحن صامدون. هذا صحيح، ولكن ليس هناك من ليس لديه سقف وقدرة».
هل زادت نسبة الذين يتناولون الأدوية المهدئة والعلاجات المضادة للكآبة؟
يقول خوري إن نسبة كبيرة من اللبنانيين اساساً يتناولون أدوية مهدئة، وهي نسبة أكبر من الدول الأخرى، وربما تصل إلى ربع السكان، وفق الدراسات. اليوم، زادت عوارض من يعانون أصلاً من التوتر والأمراض النفسية، ولكن لا يمكننا القول إن «المجتمع مريض لأن ما يحصل هو رد فعل طبيعي على تهديد واضح وموجود، والمواطنون هنا لا يتوهمون، الوهم والحقيقة يصبحان أحياناً «نفسهما»، وهو ما يحصل حالياً».
ويصبح سلوك المواطنين مَرَضياً، وفق خوري، «إذا انتهى هذا الوضع ومعه التهديد الإرهابي وبقي بعض الناس يتصرفون بهذه الطريقة، وهو ما برز بعد الحرب الأهلية، إذ استمر بعض اللبنانيين، ولسنوات، بالتمنع عن الذهاب إلى مناطق لم يكن بإمكانهم زيارتها خلال الحرب».
وتوجه خوري إلى سكان الأماكن المستهدفة بالقول «يجب ألا تنزعجوا لأنكم تتصرفون بهذه الطريقة، إنما يجب أن تفكروا إلى أي مدى يمكنكم أن تتصرفوا بالطريقة نفسها، دققوا في تصرفاتكم، وأي جزء منها عقلاني وأي جزء هو كناية عن خوف ليس بمكانه، وأزيلوا الخوف غير المبرر».
وبالرغم من عدم تصنيفه تصرفات المستهدفين حالياً بـ«المَرَضية»، يرى خوري أن «جمهور المناطق المستهدفة مهدد بالإحباط، وأن القوى السياسية، على الجانبين، تحارب الإحباط بالتهييج الطائفي». وعليه، يعتبر كلا الطرفين أن «إزاحة الآخر هو الحل، وبما أننا لا نقدر على الطرف الآخر غير العقلاني (الإرهابي هنا)، يصبح الطرف السياسي والطائفي المقابل، هو من نواجهه وسنصب عليه غضبنا».

عجز
من جهتها، ترى الاختصاصية النفسية علا عطايا أن حال الناس وسلوكياتهم المستجدة تشير إلى وجود «مستويات عالية من القلق وعدم الأمان والذعر والتوتر ـ وهي ردود فعل طبيعية في هذه الظروف غير الطبيعية»، مشيرة إلى «صعوبة مقارنة الوضع مع فترة عدوان تموز ـ إذ كان العدو/ الخطر خارجياً ومعروفاً ومحدّداً ـ أما اليوم، فالأمور أقل وضوحاً وأكثر عبثية ومربوطة بالسياسة والطائفية والمذهبية المستشرية إلى حد كبير».
وبالرغم من محاولة الأهل والأحزاب والدولة حماية المواطن، ينجح الإنتحاريون في التفجير، وبذلك، وفق عطايا، «يتأرجح المواطنون بين مشاعر الخوف والحد من حركتهم للابتعاد عن الخطر، وبين متابعتهم حياتهم بشكل عادي، كأن شيئاً لم يكن، وتسليم أمورهم و«ليكن ما يكون».
وتربط عطايا بين رد الفعل النفسي/ العاطفي وقدرة الإنسان على إعطاء معنى لما يحصل». فالناس اليوم غير قادرين على أن يضعوا تفسيراً واضحاً لما يتعرضون له، لا بل يشعرون بعشوائيته وعدم قدرتهم على توقعه، وبالتالي سيكون الوضع النفسي صعباً، لأن المستهدفين يشعرون بالعجز وعدم الأمان نظراً لطبيعة الخطر وطرقه، وهو ما يساهم في تفجير المشاكل أو الأزمات النفسية». فبالنسبة لها «المشاكل النفسية التي تخلفها العمليات الإرهابية هي أكبر بكثير من الجروح التي تتركها المفخخات والعبوات الناسفة».

 

السابق
وسام عقيقي… كاهن ماروني لبناني «استثنائي»
التالي
طلاب «الأميركية» يرفضون زيادة الأقساط