نعم… لمؤتمر تأسيسيّ

قامت الدنيا ولم تقعد عندما دعا السيّد حسن نصرالله إلى مؤتمر تأسيسيّ يعيد النظر بـ”اتّفاق الطائف” عبر إدخال تعديلات دستورية تعيد توزيع الصلاحيات بين المجموعات اللبنانية.

والهجمة على الطرح انطلقت من مبدأ أساسيّ هو أنّ الدساتير لا تعدَّل وفقاً لمصالح حزبية وفئوية، إنّما تتطلّب نوعاً من إجماع وطنيّ تحقيقاً لتسوية وتصحيحاً لشوائب في النصوص أظهرَتها الممارسة، فضلاً عن أنّ التجاوب مع رغبة كلّ فئة بتعديل الدستور من أجل أن يتناسب مع حجمها المستجدّ الديموغرافي أو الجيو-سياسي مسألة في غاية الخطورة، لأنها تبقي باب التعديلات مفتوحاً، ما يعني تشريعاً لمبدأ الاستقواء لانتزاع مزيد من الصلاحيات، الأمر الذي يعني إبقاء عناصر الأزمة وعواملها قائمة، واستطراداً استمرار الصراع بأشكاله المختلفة.

ولكن على رغم صوابية وجهة النظر هذه، يجب الإقرار بالآتي:

أوّلاً، التسوية في اتّفاق الطائف تمّت بين المسيحيّين والمسلمين، أي عمليّاً بين السُنّة والموارنة اللذين كانا يختصران، بشكل أو بآخر، هواجس الطائفتين المسيحية والإسلامية، غير أنّه مع بروز العامل الشيعي المجسّد بـ”حزب الله” اختلفت المسألة ولم يعُد جائزاً الكلام عن مسيحيّين ومسلمين بالجملة، إنّما بات من الواجب الفصل بين ما هو سُنّي وما هو شيعي.

ثانياً، التسوية في الطائف لم تكن فقط من طبيعة تعديلات دستورية وإصلاحات سياسية، إنّما كانت تسوية من طبيعة ميثاقية وفّقت بين لبنانية المسلمين وعروبة المسيحيّين، أي بتكامل اللبنانية والعروبية لا بتصادُمهما وتناقضهما، ما عُرف بـ”نهائية لبنان” من جهة، و”بلد عربي الهوية والانتماء” من جهة أخرى، الأمر الذي أدّى إلى ترييح المسيحيّين عبر تبديد هواجسهم من الضمّ والإلحاق، وترييح المسلمين من هاجس عزلِهم عن محيطهم، ما فتحَ الباب أمام رفع أكبر كتلة سنّية في العام 2005 شعار “لبنان أوّلاً”.

ثالثاً، الأزمة اليوم في لبنان ليست أيضاً من طبيعة تعديلات وإصلاحات، أو كما يحلو للبعض القول إنّ كلّ هَمّ الشيعية السياسية استبدال المناصفة بالمثالثة، إنّما الأزمة متأتّية أيضاً من أزمة خيارات كبرى وتوجّهات وطنية شبيهة إلى حدّ بعيد بالانقسام الذي كان قائماً ما قبل الطائف بتبدِية الخيارات الإقليمية على المحلّية.

رابعاً، المسألة الشيعية برزت في كلّ المنطقة العربية، وتحديداً مع سقوط النظام العراقي وتمدُّد النظام الإيراني الذي على رغم الفصل القائم حاليّاً بين الملفّين النووي والدور الإيراني، إلّا أنّ طهران ستحاول انتزاع مواقع نفوذ لها في المنطقة العربية، ولبنان في طليعة أهدافها، في ظلّ الأرض الخصبة الموجودة من خلال “حزب الله”.

خامساً، التمسّك لأجل التمسّك باتّفاق الطائف لم يعُد مفيداً ومُجدياً، لا بل يساهم في إطالة أمد الأزمة التي لا يمكن حلّها إلّا بمؤتمر تأسيسيّ يؤسّس إمّا لاتفاق جديد، أو يفضي إلى تنظيم الخلاف.

سادساً، الرهان على انتصار فريق على حساب آخر يؤسّس لمنطق ومشروع غلبة في الداخل، ما يُبقي النار تحت الرماد، في ظلّ رهان مقابل على تحوّلات خارجية جديدة تؤدّي إلى تبدّلات داخلية، وهكذا دواليك… فكلّ من يراهن في لبنان على مشروع غلبة هو واهمٌ، والدليل الساطع اندحار نظام الوصاية عن بكرة أبيه.

سابعاً، يجب الإقرار بأنّ وجدان الجماعة الشيعية، أو السواد الأعظم من هذه البيئة، مع خيار المقاومة وإزالة إسرائيل من الوجود والتمسّك بالسلاح، كما أنّ الأولوية الإسلامية والجهادية لهذه الشريحة تطغى على الأولوية اللبنانية.

ثامناً، المخاوف المسيحية من مؤتمر تأسيسيّ ليست في محلّها، لأنّ المسيحيين اليوم ليسوا في زمن الوصاية، أو مغلوبين على أمرهم، لا بل من مصلحتهم وضع حدّ نهائيّ لهذا الصراع الذي يستنزفهم سياسياً وديموغرافياً واقتصادياً، إذ إنّ استمرار اللاستقرار يشكّل خطراً وجودياً عليهم، الأمر الذي يجب أن يدفعهم إلى فرض الاستقرار بأيّ ثمن، ولو ضمن بقعة محدّدة…

فلكلّ هذه الأسباب وغيرها، يجب الذهاب فوراً إلى مؤتمر تأسيسيّ، خصوصاً أنّ اللحظة الدولية-الإقليمية أكثر من مؤاتية، في ظلّ الانكباب الدولي على حلّ الأزمتين السورية والنووية الإيرانية، وبالتالي لا ضيرَ من انعقاد “جنيف لبنانيّ” لحلّ الأزمة اللبنانية على قاعدة التوافق على بند واحد أوحد، قبل الشروع في التفاصيل الأخرى، وهذا البند يتصل بدور لبنان، فإذا تمّ الاتفاق على مبدأ تحييده وأولويته ونهائيته وعدم نصرة القضايا حتى الإلهية على حسابه والتسليم بمركزية الدولة داخله، وحصرية السلاح بيدها، تكون قد تحقّقت التسوية التاريخية المرجوّة، الأمر الذي يفتح الباب لبحث ومعالجة القضايا الأخرى التي يجب أن تكون قاعدتها تطوير النظام السياسي من الطائفية إلى المواطنية، ولكن في حال عدم الاتفاق على دور لبنان والتنازل للمشترَك المسمّى دولة، فمن الواجب التوافق على الفصل…حُبّياً.

السابق
الاستحقاق الرئاسي يضغط على المشاورات
التالي
الأخبار: انتحاري الشويفات… انغماسيّ