الإنقسام الثقافي

النقاش الذي افتعله زياد الرحباني بقوله إنّ السيّدة فيروز تحبّ السيّد نصرالله، وتعقيبه بأنّها مع خيار المقاومة، فتح سجالاً من طبيعة ثقافية ودلّ أنّ الانقسام في لبنان يتجاوز السياسي إلى ما هو أعمق من ذلك، لأنّ البعد الثقافي يتّصل بكلّ الجوانب الحياتية، ولا يقتصر على السلاح والسلطة وغيرهما.

وإذا كان لا أحد يناقش السيّدة فيروز بحقّها في حبّ السيّد نصرالله أو حقّ أيّ فنّان بالإعجاب بأيّ شخصية سياسية، غير أنّ النقاش تركّز حول كيفية إستواء هذا الحب بين ثقافتين مختلفتين، ثقافة غنّت للبنان ووصلت إلى درجة تمجيده، وثقافة أخرى لا يدخل لبنان ضمن حساباتها وأولويّاتها وهمومها.

فالإشكالية المطروحة تتّصل بكيفية تأييد فنّان معيّن خياراً سياسيّاً، فيما البيئة التي تحتضن هذا الخيار ترفض الاستماع إلى أغاني هذا الفنّان أو محرّم عليها ذلك؟ والإشكالية الأخرى المطروحة تتعلّق بكيفية الانجذاب إلى خيار سياسي يتناقض مع كلّ أعمال هذا الفنّان وتراثه، حيث يفترض بأيّ شخص أن يكون منسجماً مع نفسه، لا أن تتعارض أعماله مع توجّهاته، وإلّا يتحوّل إلى ممثل له دورانِ، واحد في الأفلام وآخر في الحياة؟

فالأغنية اللبنانية والمسرح اللبناني يشكّلان جزءاً لا يتجزّأ من الثقافة اللبنانية التي أرسَتها المارونية السياسية، وهي منظومة متكاملة تبدأ بالتعليم والاستشفاء ولا تنتهي بالنظامين السياسي والاقتصادي، والتي تحوّلت مع الوقت إلى أسلوب حياة جعلت المسلم اللبناني يختلف عن المسلم غير اللبناني، وأعطت للبنان هويته الثقافية المنفتحة على الغرب والثقافات الأخرى.

وقد جاءت الأغنية اللبنانية التراثية لتعزّز هذا النهج الثقافي الضارب في أعماق التاريخ اللبناني وتعمل على ترسيخه وتثبيته وتعزيزه، والحرب التي شنّت على المارونية السياسية لم تكن بسبب العنصر السلطويّ المتصل بالامتيازات، إنّما كانت في الأساس بغية ضرب مفهوم الحرّية لدى هذه الجماعة، والذي شكّل سدّاً منيعاً في المرحلة الأولى أمام مشاريع الوحدة العربية ومن ثمّ مع سوريا، وفي المرحلة الحاليّة أمام الوحدة مع إيران إنْ ضمن الهلال الشيعي أو في سياق تحويل لبنان إلى وطن المقاومة، مع فارق هذه المرّة أنّ مواجهة هذا المشروع هي سنّية – مسيحيّة.

وفي هذا السياق لا يمكن تفسير بيع الأراضي ووصلِ المناطق والدخول إلى الجامعات والتمسّك بالسلاح والإمساك بالسياسة الخارجية وتحديد وظيفة لبنان بقوّة الأمر الواقع وفرض عادات وتقاليد محدّدة، إلّا بأنّها محاولات لتغيير هويّة لبنان وثقافته. فـ”حزب الله” يدرك جيّداً أنّ الغلبة العسكرية مؤقّتة وتتعلّق بالظروف الخارجية والمعطيات الموضوعية القابلة للتبدّل في أيّ لحظة، وبالتالي من أجل إطالة أمد مشروعه يعمل على تعزيز الغلبة العسكرية بعناصر أخرى.

ولكنّ ما لا يدركه “حزب الله” أنّ المارونية السياسية لم تكن يوماً مشروع غلبة، إنّما مشروع حياة، والإنجازات التي حقّقتها في شتّى الميادين لم تكن بهدف فئويّ أو سلطوي، إنّما مواكبة للتاريخ والحضارة والتقدّم والرقي، وبالتالي مشروعها كان دوماً في حالة سباق مع العصر والتطوّر والحداثة، ولم تعتبر يوماً أنّ ما تحقّقه تريد توظيفه في سياق مشروع خاص، بل اعتبرت دوماً أنّ المشترك المبني على أسلوب العيش والتفاعل اليومي قادر على تجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية، وتوحيد المجتمع دفاعاً عن هذه القيام وحرصاً على مزيد من التقدّم والتنعّم بحياة أفضل.

وما لا يدركه “حزب الله” أيضاً أنّ مشروعه المرتكز على مبدأ المقاومة وثقافة الموت والحرب يتطلّب عقوداً من الزمن من أجل ترسيخه وتثبيته وتجذيره، ولكنّ المعضلة المميتة التي تواجه هذا المشروع هي الوقت الذي لا يعمل لمصلحته، لا بل يسير عكس السير والزمن والتاريخ، هذا المشروع الذي انتهى مع سقوط الاتّحاد السوفياتي ودفن مع ثورة الاتصالات وانتهت كلّ مفاعيله مع الثورات العربية، ويعيش اليوم آخر فصوله في لبنان والمنطقة.

ومن هنا لا شيء يجمع بين أعمال فيروز ومشروع “حزب الله” الذي يشكّل تهديداً وجودياً لكلّ هذا التراث الذي شكّل متراساً متقدّماً في الدفاع عن هوية لبنان وثقافته. كما لا شيء يؤكد أن ما قاله زياد الرحباني دقيق وصحيح، خصوصاً بعد رفض فيروز التعليق ونفي شقيقته ريما ما قاله، وبالتالي من غير المستبعد على هذا الرجل الذي ينتمي إلى اليسار القديم الذي انتهى وعفا عليه الزمن أن يكون قد افتعل هذا السجال بغرض تسليط الأضواء على شخصه بعد التراجع الهائل في حضوره، ولكنّ أهمّية هذا النقاش أنّه أظهر في جانب معيّن أنّه ممنوع على السيّدة فيروز أن تحبّ السيّد نصرالله، إلّا أنّ التحدّي الأساس يبقى في التمسّك بالمشروع اللبناني الكفيل وحده بإسقاط مشروع “حزب الله”.

ولكن على الرغم من ذلك ستبقى فيروز أيقونة من أيقوناتنا، وستبقى كلمات أغانيها محفورة في وجداننا، ولن نسمح لأحد بأن يشوّه هذا التاريخ ويسرقه منّا..

السابق
مطربة إيرانية في إسرائيل: أمثل الشعبين
التالي
فرعون: عدد كبير من مشاكلنا مرتبط بالأزمة السورية