لهذا بكيت في طريق العودة الى لبنان

جنى الحسن
لبنان من البعيد ليس أكثر من هاوية، إدمان على السقوط وأنا أريد أن أعيش. أريد أن أعيش وليس بأقلّ ما يمكن بل بأكثره وبما لا يمكن حتّى. لهذا بكيت في طريق العودة وشعرت انّ قلبي يتوقّف حين حطّت الطائرة في مطار بيروت الدولي. لهذا بكيت في طريق العودة، ليس شوقاً بل رغبة في الفرار.

لا أريد أن أكون جزءاً من هذا الوطن. أريد ذاكرة جديدة لا دم فيها ولا سيّارات مفخّخة. أريد هموماً صغيرة كأن يساورني شيء من القلق إن تراجعت ابنتي في دروسها. أو ألّا أتمكّن من شراء ثوبٍ أعجبني. أريد حياةً تافهة وسخيفة أقصى ما يثير الحزن فيها أن يهجرني حبيبي أو أن تفوتني مشاهدة مسرحية ما أو أن يحترق الطعام على النار.

لا أريد أن أكون جزءاً من هذه الخلافات على من قتل الحسين أو من صلب المسيح أو من كفر بدين محمّد. على قدر احترامي لهذه الشخصيات، أجدها من ماضٍ سحيق لا أريد العودة إليه. أريد أن أعيش في الحاضر والمستقبل وأن أتخلّى عن التاريخ بكل ما فيه. كأنّني امرأة ولدت في مكان مختلف أو ربما حتى لم تولد بعد.

لا أريد أن يقاطعني شريط الأخبار كل دقيقة عن الحلم ولا أريد أن أعرف حصيلة الموتى في نهاية كل نهار والحصيلة الأخرى مع بداية كل فجر. لا أجد تبريراً للموت المجاني ولا أستطيع أن ألصق صفة الشهادة بأناس كانوا يرغبون في العيش ربما ولكن الصدفة اللعينة سلبتهم أنفاسهم.

كنت على سفر الأسبوع الماضي: كل ما أتاني من وطني أخبار الاغتيال والاشتباكات والعنف اللفظي بين السياسيين. كنت أرى ناس بلاد أخرى يعيشون حياة طبيعية، يضحكون ويتكلمون ويخططون لمشاريع نهاية الأسبوع. لم يبدُ لي لبنان سوى وادٍ سحيق يجرّنا إلى الأسفل أو تراه مثلنا هو الآخر، تجرّه طبقة من المسؤولين إلى القعر. شعرت أنّني أشفق عليه ولكن أنّني لا أستطيع انتشاله. كل ما يمكننا أن نفعل، نحن من نريد أن نحيا، أن ننتشل أنفسنا منه وإن كان ذلك يعني أنّنا سنقع في نار الغربة.

ولكن مهلاً، ماذا نعيش هنا – نحن من نريد أن نحيا – غير الغربة وسط ثقافة الموت؟ هل نحن فعلاً متآلفين مع كل هذا الخراب؟ لتكن غربة مثمرة إذاً، غربة نستطيع أن نبني بعض الأحلام فيها، أحلام لا يؤرقها أن ينسفها انتحاريّ ما أو نظامٍ ما.

لبنان من البعيد ليس أكثر من هاوية، إدمان على السقوط وأنا أريد أن أعيش. أريد أن أعيش وليس بأقلّ ما يمكن بل بأكثره وبما لا يمكن حتّى. لهذا بكيت في طريق العودة وشعرت انّ قلبي يتوقّف حين حطّت الطائرة في مطار بيروت الدولي. لهذا بكيت في طريق العودة، ليس شوقاً بل رغبة في الفرار.

السابق
وفاة مواطن في دير عامص
التالي
سليمان العطّار…