قصة خطف صحافي ايطالي في الطريق الى القصير

صحافي

حاولت الذهاب إلى دمشق، لكن الجيش الحر أبلغنا أن ذلك متعذر قبل أيام، واقترح علينا أن نقصد القصير، على مقربة من الحدود اللبنانية. هذه البلدة كانت يومها مطوّقة بحصار «حزب الله» الموالي لنظام بشار الأسد. دخلنا سورية في السادس من نيسان (أبريل) المنصرم بحماية الجيش الحر، ووصلنا إلى القصير مع قافلة تموين تابعة له. الرحلة دامت ليلة طويلة في مركبة مطفأة الأضواء عبرت الجبال لتصل في الصباح إلى مدينة عمّها دمار القصف الجوي. فقررنا عودة الأدراج ومحاولة العبور إلى دمشق. طلبنا أن يرافقنا رجال الجيش الحر. فرافقنا منه رجلان تشاركنا معهما طعام العشاء، وحسبنا انهما موضع ثقة، ولكنهما على الأرجح باعانا إلى الخاطفين. وعند مغادرة القصير، أوقفت السيارة التي نحن على متنها، شاحنتان مليئتان بالملثمين. حملونا على الانضمام اليهم في الشاحنة واقتادونا إلى منزل. هناك أوسعونا ضرباً، وزعموا أنهم من رجال شرطة النظام. ولكن لم يطل الأمر قبل أن نكتشف في الأيام التالية كذب هذه المزاعم. فالخاطفون أتقياء لا يهملون أوقات الصلاة، واستمعوا نهار الجمعة إلى خطبة رجل يدعو إلى الجهاد ضد بشار. ولكن لم يقطع الشك باليقين إلا بعد أن قصفت طائرات النظام منزل الخاطفين. وأيقنّا أننا رهائن في قبضة الثوار.

 

الخاطفون ينتمون إلى مجموعة الأمير أبو عمر، وهو على رأس كتيبة من سكان المنطقة، هم أقرب الى لصوص وقطّاع طرق منهم إلى الإسلاميين أو الثوار. ويتخفى أبو عمر وراء الإسلام للتغطية على أنشطته الفعلية، أي التهريب والأعمال غير المشروعة. وتربطه بكتيبة الفاروق، وهي المجموعة الخاطفة، علاقات تعاون. والكتيبة هذه ذائعة الصيت وهي منضوية في المجلس الوطني السوري، وممثلوها يلتقون الحكومات الأوروبية. الكتيبة أسسها ضابط متمرد جنّد سواقط النظام المافيوي السوري، وجمعهم حوله. وعلى رغم أن الغرب يوليهم الثقة، استخلصت من تجربتي المرّة ضرورة الحذر منهم. فهم بنات ظاهرة جديدة في سورية: بروز عصابات «بلطجة»، على نحو ما حصل في الصومال، تصبغ نفسها بصبغة إسلامية وثورية من اجل السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد وأخذ السكان رهينة، وخطف الناس، وتكديس الثروات. في البداية اعتقلنا في منزل جبلي على طرف القصير نحو عشرين يوماً. ثم كرت سبحة حوادث متصلة كارثية كانت فاتحتها مهاجمة «حزب الله» مواقع الثوار ووقوع المبنى حيث نحن معتقلون في مرمى النيران وعلى خطوطها الأمامية. استهدِف المنزل وهوجم، فانتقلنا إلى منزل آخر داخل المدينة، لكنه سرعان ما صار واحداً من أهداف الهجوم. وطوال أسبوع، تركنا الخاطفون «وديعة» في يد كتيبة تابعة لجبهة النصرة. وفي هذا الأسبوع عوملنا معاملة إنسانية وتوجه إلينا كبشر. بدت علامات التعاطف على مقاتلي النصرة، وتقاسموا معنا طعامهم. حياتهم بالغة البساطة، هم مغالون في الدين، لكنهم يحترمون الخصم والعدو ويعاملونه بما يمليه عليهم الشرف والأخلاق. وكانت هذه المجموعة الوحيدة التي أحسنت معاملتنا، لكننا عدنا إلى قبضة أبو عمر.

 

 

 

سفر الخروج من القصير

 

المدينة كانت محاصرة، والدمار يعمها يوماً بعد يوم، وتتداعى حجراً إثر حجر. في مطلع حزيران (يونيو) الأخير، أوشكت القصير على الوقوع في يد «حزب الله». فقررت مجموعات الثوار، وكتيبة ابو عمر من ضمنها، الهرب وتجاوز خطوط العدو برفقة السكان. ونجحنا في المسعى هذا نجاحاً لا يصدق. فالرحلة كانت ملحمة رهيبة أبطالها رجال ونساء وأطفال ومسنّون ساروا 12 ساعة متصلة طوال ليلتين متتاليتين وطافوا في الأرياف. بلغ عددهم نحو 5 – 6 آلاف شخص، وطوال مسيرة الزحف هذه فوق الحصى، كانت ضوضاء أصوات الأرجل تصم الآذان كما لو كانت حركتهم حركة جسد واحد. وحين كانت تضيء الفضاء قنابل مضيئة يطلقها جنود النظام لتحدد وجهة القصف والرماية بالأسلحة الرشاشة وترفع ستار الظلام عن الجموع النازحة من القصير، كانت الأضواء الباهرة تملأ المكان فيرتمي آلاف الأشخاص أرضاً اتقاء للنيران في صمت مهيب. ولحظة خبو القنابل المضيئة وسقوطها على الأرض، كان الجمع يستأنف رحلته مخلّفاً وراءه سبحة موتاه. من الهضبة العالية نزلنا نحو حمص. خلتُ أنني في حلم، فأوجه الشبه بين هذه اليقظة والواقع بدت لي ضعيفة. وفي الظلام بلغنا هذه المدينة الكبيرة التي كانت مهد الثورة. فألفنا شطراً من المدينة مقفراً ومدمراً يعمّه الخراب، وشطرها الثاني كان مسكوناً تدور في رحاه معارك. وراودني تخييل بصري غريب يعصى على التصديق، وكأن المنازل البيض الممتدة على مرمى النظر تتمارى في الفضاء وتنعكس صورتها في مرآتها. فتجلو صورتان لحمص، حمص المدمرة التي يسودها سكون المقابر وصمتها، وحمص المشتعلة بأضواء القنابل والقذائف والصواريخ وضجيج الحرب.

 

 

 

ملحمة التيه والخطف

 

وبعد تلك الليلة، عدنا إلى نقطة البداية، أي إلى حيث بدأت رحلتنا ولقينا مصير عوليس في الأوديسة لحظة وقعت أنظاره على منزله وهو يتجه صوب جزيرة إيتاك، فهبّت عاصفة حملته بعيداً من بيته وأمعنت في عقابه. فالرياح جرت بما لا نشتهي. وحين بلغنا ريبروك، المدينة التي انطلقنا منها، اشترتنا كتيبة الفاروق مجدداً. وبعد يومين، قيل لنا إننا نتجه شمالاً نحو الحدود مع تركيا وأن سراحنا سيطلق هناك. سافرنا ليلتين في شاحنة الكتيبة هذه، وبلغنا إدلب حيث احتجزنا كذلك 3 – 4 أسابيع في قاعدة عسكرية.

 

أثناء النزوح من القصير، في اليوم الأول من المشية، مثلت في حضرة أبو عمر الجالس تحت شجرة محاطاً ببلاطه الصغير من المقاتلين. طلبت منه هاتفه لأطمئن عائلتي التي تحسب أنني في عداد الأموات. ضحك وأراني هاتفه وزعم أن الإرسال مقطوع على خلاف ما رأيتُ بأم العين. فبادر جندي من الجيش الحر وهو مصاب بساقه، إلى إعارتي هاتفه. كانت بادرة لطف وتعاطف يتيمة في 152 يوماً من الأسر. ولم تصدر عن أي كان، سواء كان طفلاً أو مسناً، إشارة رحمة أو شفقة. دام اتصالي بأهلي 20 ثانية تناهت إليّ خلالها أصوات هلعهم، قبل أن ينقطع الاتصال.

 

 

 

الإيهام بالإعدام

 

عوملنا معاملة الحيوانات، وحُبسنا في غرف صغيرة نوافذها مغلقة على رغم القيظ. وقدمت لنا الفضلات غذاءً. ولم يسبق أن شعرت بمثل هذه الإهانة اليومية. وحُرمت من أبسط الأشياء، أي قضاء الحاجة عند الحاجة، كأن السرور راود السجانين إذ عاملوني، أنا الغربي الثري، معاملة المتسول.

 

سعى السجانون مرتين في إيهامي بأنهم على وشك تصفيتي. كنا على مقربة من القصير. اقترب أحدهم منهم مني وأشهر مسدسه لأرى انه مشحون بالطلقات. ثم وضع رأسي لصق جدار، ووجّه سلاحه نحو صدغي. بدت اللحظة هذه من غير قاع أو نهاية. يشعر المرء بالعار في مثل هذه اللحظات… وتذكرت مشهد الإعدام الزائف في رواية دوستويفسكي… شعرت بالغضب جراء شعوري بالخوف… سمعت حركة تنفس قاتلي المفترض وأحسست بمتعة إمساكه بحياتي بين يديه، متعة الشعور بخوفي. ضراوة هذا القاتل تشبه ضراوة الأطفال الذين غالباً ما يقعون في حبال الوحشية والعنف إذ يقطعون أرجل نملة أو ذنب سحلية.

 

درج السجانون على خداعنا قائلين: «بعد يومين إن شاء الله سنفرج عنكم، وتعودون إلى إيطاليا». لكننا حين أدركنا كذبهم، صرنا نرد بالقول «إن شاء الله». وذات صباح أحد، شعرت بأن معاناتي شارفت على الانتهاء. وتنقلنا في كل أجزاء البلاد وكأن الخاطفين أرادوا تضليلنا. ثم بلغنا دير الزور، الصحراء السورية الكبيرة. وتوقفنا في قرية أجهل اسمها، ثم عدنا أدراجنا. ولسان حال الخاطفين كان «إن شاء الله». وحسبنا انهم يخادعون. فأمرونا بالترجل من السيارة واجتياز الحدود. خشيت أن يطلقوا النار علينا في الظلام الدامس قبيل الفجر. توهمتُ سماع صوت المسدس وهو يُعد لإطلاق النار، ارتميت أرضاً. ولكن لم يصوّب أحد رشاشه إليّ. وسمعت شخصين يتحدثان الإيطالية، فأيقنتُ أن الأسر انتهى.

السابق
الحكم على 3 لبنانيين بالسجن المؤبد لتخطيطهم للقيام بهجمات ضد اليونيفيل
التالي
المخطوفون اللبنانيون التسعة بخير