تفاهمات جنيف الاستحقاقات الواقعيّة

لعلّ الغموض الذي أحاط بالتسوية الروسية ــــ الأميركية حول الكيميائي السوري أن يكون مقصوداً لذاته؛ فهو يتيح للفريقين إطاراً واسعاً للحركة ــــ بما في ذلك التصريحات الاستهلاكية اللازمة للإدارة الأميركية. ولكنه يتعدّى ذلك إلى ما هو أبعد؛ فذلك الغموض ليس، في النهاية، سوى المساحة غير المحدّدة للتفاهمات التي توصّل إليها الفريقان في جنيف، وتبدأ بالاتفاق على الكيميائي السوري، وتمرّ بالاستحقاقات الواقعية الناجمة عن هذا الاتفاق، ولا تنتهي بالآفاق غير المنظورة للتعامل مع الملفات الإقليمية الكبرى المطروحة.
نحن، إذاً، أمام سياق يعكس موازين القوى والتقاطعات في الصراع السوري ــــ الإقليمي ــــ الدولي، اتّضح، وبعضه يتّضح، وبعضه يتشكّل:
أولاً، اتفاق الكيماوي، بحد ذاته، يستبعد الحرب كخيار، بل هو نشأ أساساً عن الحاجة المشتركة لتلافي الحل الحربي.
ثانياً، وهذا الاتفاق ــــ الموقّع مع نظام الرئيس بشار الأسد، والمطلوب تنفيذه ــــ يعني الاعتراف الواقعي بهذا النظام، والكفّ، واقعياً، عن مساعي إسقاطه بالقوّة، أو حتى المطالبة بإسقاطه سياسياً، أقلّه في فترة التنفيذ.
ثالثاً، ولا يعني ذلك فقط أن النظام السوري أصبح يملك الفرصة والوقت والدعم الروسي ــــ الإيراني المضاعَف لتصفية الجماعات الإرهابية في سوريا، بل يعني، أيضاً، بصورة ضمنية، تفاهماً دولياً على قيام الجيش العربي السوري بتصفية منظمتي «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية في الشام والعراق» والعناصر الإرهابية الأخرى التي تشكّل ــــ وفق دراسة بريطانية ــــ «نصف المعارضة المسلحة».
رابعاً، التوافق الروسي ــــ الأميركي على التخلّص من الإرهابيين، يطرح مهمّة إحداث تغييرات جذرية في هيكلية وتوجّهات ما يسمّى «الجيش الحر»، بما يسمح بإدماجه الممكن في التسوية السياسية المنتظرة في جنيف، وبما يؤدي إلى خفض مستوى عملياته، ووقف تزويده بأسلحة نوعية أثبتت التجربة الواقعية أنه لا يمكن تلافي وصولها إلى الإرهابيين.
خامساً، هكذا، ستُطرَح العمليات السعودية ــــ التركية لتصدير السلاح والمسلحين إلى سوريا على بساط البحث، وسيكون على الولايات المتحدة كبح جماح السعوديين وضبط الحدود التركية ــــ السورية. وهو ما سيتطلّب، عاجلاً أم آجلاً في المدى المنظور، الإطاحة بالمغامرَين: رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان، ورئيس الوزراء التركي رجب أردوغان.
أما الحدود الأردنية ــــ السورية، والتي لا تُستخدم أردنياً وإنما أميركياً وسعودياً، فيمكن ضبطها على الفور (لكن، على المستوى السياسي، فسيكون على وزير الخارجية المعادي لسوريا ناصر جودة وفريقه المغادرة، وربما حكومة الدكتور عبد الله النسّور بكاملها، لتحلّ محلّها حكومة قادرة على التفاهم مع دمشق).
سادساً، على هذه الخلفية، سيكون بالإمكان التحضير لعقد مؤتمر «جنيف ـ 2» لتسوية الأزمة السورية. هنا، تبرز مشكلتان، تتعلق الأولى بتشكيل وفد، أو وفود، المعارضة ــــ وسيكون على الأميركيين والروس التعاون مرّة أخرى لحل هذه المشكلة ــــ وتتعلّق الثانية بحق الرئيس بشار الأسد بالترشّح لولاية جديدة. وهذه المشكلة ستظل محور الصراع بين واشنطن وموسكو حتى اللحظة الأخيرة.
ومن اللافت هنا، أنّ الأطراف الأكثر عقلانية وواقعية في السعودية بدأت بالتحوّل نحو التركيز على هذه النقطة تحديداً؛ فهي إذ تعترف بخسارة المعركة حول النظام السوري لمصلحة روسيا، فإنّها تأمل بأن تنتهي موسكو إلى التخلّي عن شخص الأسد في إطار صفقة كبرى. لكن ذلك يظلّ في إطار الأمنيات، فلا شيء يضطر الروسي إلى هكذا تنازل، وخصوصاً أن الرجل لم يعد مجرد رئيس للجمهورية يمكنه الذهاب إلى التقاعد، بل غدا رمزاً أساسياً للمواجهة بين محورين إقليميين ــــ دوليين، بينما تحوّل، داخلياً، إلى ضمانة أساسية للتحالف الذي يصون وحدة الدولة السورية، وبالتالي لإمكانية إنجاح التسوية السياسية في البلاد.
سابعاً، تطرح هذه المعطيات على أوساط المعارضة الوطنية والمعتدلة في سوريا مهمّة المسارعة إلى التوافق على برنامج سياسي يأخذ بالاعتبار ما يلي: (1) أنه لن يكون هناك تغيير في الخندق الجيوسياسي للدولة السورية وتحالفاتها الإقليمية والدولية وتوجهاتها، (2) أن الرئيس الأسد سيكون المرشح الأقوى في انتخابات 2014، وأنه سيكون، تالياً، رئيساً منتخباً لسوريا لولاية ثالثة.
وبناءً عليه، فإنّ الواقعية السياسية ومراعاة المصالح الوطنية العليا لسوريا، تفرضان البحث في جدول أعمال يضع جانباً الأهداف الوهمية التي طالما كرّرتها المعارضات السورية في السنوات الثلاث الماضية، والتركيز على المشاركة في عملية بنائية تتضمّن إطلاق الحريات وإصلاح الأجهزة الأمنية ومحاربة الفساد ونبذ النيوليبرالية، والاقتصاد العادل والديموقراطية الاجتماعية، وخصوصاً إعادة البناء بعقول وسواعد السوريين ولمصلحتهم وليس لمصلحة الشركات. وفي رأيي، إن تحقيق هذه الأهداف ممكن، ولا سيما أن هناك قوى وطنية داخل النظام القائم لديها الإيمان بضرورة إنجاز بعض هذه المهمات أو كلّها.

السابق
من يعطل حراك رئيس المجلس؟
التالي
تقدّم إسرائيلي باتجاه الوزاني