انتحر الصحافي عكاوي والنقابة تترقب خبر انتحار جديد

إنتحر الصحافي والناقد السينمائي والفني نصري عكاوي. إنتحر من يأسه، من عوزه، من مهنة الرسالة التي قضت عليه بعدما بذل نفسه من أجلها. إنتحر نصري ومعه إنتحر جزء من كياننا الصحافي، كيف لا ونصري يمثل كل صحافي يؤمن بالقلم والحرية. وقع خبر انتحاره كالصاعقة على اهل الصحافة، فموته ليس قضاءً وقدراً، هو عن سابق اصرار وتصميم بعدما ضاقت به الحياة ذرعاً وظلما. لم يكن نصري ليستسلم بهذه السهولة، هو المناضل المثابر لـ75 عاما، لكن الحياة لم تنصفه فقرر الرحيل بكرامته وبقلمه الذي خطّ بالدم نهاية مسيرته الصحافية…بإلقاء نفسه من شرفة منزله في الطبقة السابعة في سد البوشرية.

ان ينتحر صحافي في بلد الحريات الصحافية وصمة عار على لبنان وعلى جسمه النقابي، ان ينتحر نصري بعدما نهش المرض جسده ، وأكلت الخلافات بين ورثة دار ألف ليلة وليلة من حقه..هي عقم الصحافة بحدّ ذاتها. إنتظر نصري طويلا، انتظر اكثر من سنتين علّ الحياة تبتسم له من جديد، فيحمل القلم والورقة ويكتب ما لم يجرؤ عليه الآخرون، لكنه سئم الإنتظار، لم يأتِ احد لينتشله من يأسه، لم يأتِ احد لنجدته فرحل مغمض العينين، مستسلما للمرض والقهر ودنيا اللاعدالة.

لم ينتحر نصري مرة واحدة فهو مات آلاف المرات قبل ان ينتحر جسديا. لفظ انفاسه الصحافية منذ عامين واكثر إلا ان جسده بقي ينبض حزنا وألما أياما وشهورا. الكل كان يدرك واقع نصري ومأساته لكن احدا لم يتحرك، لم ينتفض او يثور. الكل سمع عن مرضه وتعبه ويومياته التي تشبه بقساوتها الفقراء والمحتاجين إلا ان احدا لم يتكلم باسمه، بقلمه ووفائه. وكأنه مكتوب علينا ان نبكي على امواتنا بعد رحيلهم ونشيد بهم عندما يتوقفون عن سماعنا، ورغم ان انتحار الناقد والكاتب نصري شكّل هزة نفسية عند اهل الصحافة إلا ان النقابتين لم تهتز بمملكتهما سوى بالتعازي الحارة. لم تعدّ حادثة نصري فردية وانما هي حادثة موجهة الى كل صحافي في لبنان، اليوم نصري فمن هو التالي؟

النقابة ” ما في حدا”
صحيح ان نقيب المحررين الياس عون عبّر عن حزنه وأسفه على انتحار نصري، هو صديق المهنة والحياة، ولكن ليس صديق الموت. سمع عن سوء احواله، بذل بعض الجهد لمساعدته لكن امكانياته لم تسعفه، فمات نصري وبقيت النقابة صامدة في وجه مأساة قد تصيب صحافيا آخر. برأي عون ” الدولة عاجزة عن القيام بأي شيء والنقابة محدودة الامكانيات”. وكأنه بطريقة اخرى يريد ان يتبرأ من هذه المسؤولية وهذا الذنب، فموت نصري مسؤولية الدولة والنقابة فهما قتلا نصري بلامبالاتهما وعجزهما امام حالته الاجتماعية والصحية المزرية. ” لم يعد نصري يتحمل هذا العب فقرر وضع حد لحياته ومأساته” بصراحة يقولها النقيب ، هو مدرك تماما ان ما مرّ به نصري قد يمرّ به مئات الصحافيين الذين يطردون تعسفيا من مؤسسات لم تعدّ قادرة على تحمل اعباء موظفيها. ولكن اين يكمن دور النقابة في هذا الموضوع؟ والى متى ستبقى النقابة مجسما شكليا لقطاع مهدد بالزوال ؟ يعترف النقيب عون بعجز النقابة المادي، فبالنسبة اليه لطالما كانت المشكلة بضيق المادة و” ضعف الاشتراكات” وغياب الدولة ولكن ليس بدور النقابة في رفع الصوت والمطالبة بحقوق الصحافيين عموما. صحيح ان موت نصري شكّل صدمة بالنسبة الى الكثيرين إلا ان الأسف على رحيله لن يُعيد نصري من الموت ويجعله يمسك القلم من جديد.

انتحار نصري مسؤولية رسمية
لا يخفي النقيب تخوفه من تكرار المأساة لكنه في الوقت نفسه عاجز عن الانتفاضة والثورة، رغم انه يدرك في قرارة نفسه الظلم الذي يعانيه الصحافي في هذا الزمن المرّ. وحدها صرخة انطوان شدياق رئيس تحرير البيرق تجرأت على قول الكثير والكثير والعتب على الدولة والنقابة وكل من قتل نصري بتجاهله. إذ رأى شدياق اننا ” بحاجة الى انتفاضة صحافية لإسقاط النقابتين اللتين تعيشان في غيبوبة تامة، بحاجة الى هيكلة جديدة وإلا الله يستر”. بهذه الكلمات يلخّص رئيس تحرير البيرق واقع الصحافة اليوم، فهي على شفير الموت وحادثة نصري تمثل حالة من مئات الحالات التي تتنفس قهرا وحزنا. لن يعرف الكثيرون عما وصلنا اليه، وحدهم الذين يعيشون المعاناة نفسها مشوا وراء جثمانه، اليوم ودعنا نصري وغدا سنودع آخر لأننا نفتقد لأي سند في الآخرة. ……

“موت نصري مسؤولية الدولة والنقابة” يقولها شدياق بالفم الملآن، رمى بنفسه عن شرفة منزله بعدما رمته الخلافات بين ورثة دار ألف ليلة وليلة في منزله عاطلا عن العمل ومسلوبا من حقوقه وتعويضه المهني. لا يخفي حرقة قلبه على مصير نصري، هو الذي يعرفه جيدا ويعرف ما عاناه من عذاب و”بهدلة”، فموت نصري أيقظ فينا انتفاضة العيش بكرامة بعدما هوى جسد نصري من الاعالي الى ارض تلقفته بحسرة. لذلك لا بدّ من التحرك، هذا ما يؤكد شدياق، فنحن ” وصلنا الى الاستحقاق الكبير وسننزل الى الشارع نهار الخميس …كرمال نصري “. إنتحر نصري يأسا وترك لنا حرية الإختيار فإما ان نثور من اجل الصحافة وما تبقى فيها وإما ان نموت قهرا وانتحارا على دولة لم تعد تعرف شيئا عن الكرامة.

السابق
قبل نعي الثورات
التالي
المسرح والطائفية: نقد ام اثارة