سوريا بين الواقع «الشيشاني» واحتمالات «الأفغنة»

 وصفت الأمم المتحدة العاصمة الشيشانية غروزني، إثر سقوطها بيد الروس بعد معارك استمرت قرابة 4 أشهر، بالمدينة الأكثر دمارا على وجه الأرض. وكانت القوات الروسية قد سوتها بالأرض، مستخدمة كل ما تملكه من ترسانة عسكرية ضخمة، كانت كفيلة بتدمير أي مدينة تفوق مساحة غروزني أضعافا.

بعدها طردت القوات الروسية عناصر الجيش الشيشاني الموالي للرئيس أصلان مسخادوف، والجماعات المسلحة التابعة لزعيم المتمردين شاميل باساييف، إلى خارج المدينة، إضافة إلى تهجير أغلب سكانها.

بعد أن سيطرت موسكو على كل أراضي الشيشان، وقتلت أغلب قادة الانفصاليين وفي مقدمتهم الرئيس مسخادوف، قررت إعادة الحياة السياسية إلى الشيشان، عبر ترتيب انتخاب مفتي القوقاز المنشق أحمد قاديروف رئيسا للشيشان، ثم عملت على تظهير تدخلها في الشيشان أمام الرأي العام الداخلي والخارجي أنه من أجل إنقاذ المواطنين الشيشانيين من الجماعات الإسلامية المتشددة، ومجموعات إرهابية وعصابات خارجة عن القانون جاءت من الخارج، من أجل بناء دولة الخلافة الإسلامية في الشيشان.

منذ اليوم الأول للأزمة السورية انحازت موسكو مباشرة إلى جانب الأسد، ومع انتقال الثورة من السلمية إلى استخدام السلاح دفاعا عن النفس عمل الكرملين تدريجيا على تطبيق النموذج الشيشاني في سوريا، مراهنا على قدرة الأسد على الحسم السريع.

اعتقدت موسكو أن منهج التدمير الشامل الذي استخدمته في حرب الشيشان الثانية، الشبيه إلى أبعد الحدود بعملية إبادة مدروسة وممنهجة، والمرتكز على روية عسكرية خاصة، مبنية على مبدأ تحطيم الخصم وإنهاكه، باعتماده على قوة النيران والاندفاع القوي، مهما تكبد المهاجم من خسائر، والمبالغة باستخدام القوة بغض النظر عن حجم الخصم، وواقع الميدان وموازين القوة، يحقق المطلوب في سوريا أيضا، ويحمي الأسد من السقوط.

بدأ ذلك مع دفع موسكو بكل قدراتها العسكرية وقواها السياسية، إلى تأمين التغطية المطلوبة للرئيس السوري بشار الأسد، في المحافل الدولية ومجلس الأمن خصوصا، وتحاشيا لإدانته أو معاقبته مهما بلغ حجم الانتهاكات، بالمقابل عمدت موسكو إلى وصف دفاع الثوار عن أنفسهم بالعمل الإرهابي، الذي تقوم به جماعات إسلامية متشددة، متهمة إياهم بتنفيذ أجندة خارجية، مع الإصرار على عدم الاعتراف بوجود معارضة أساسا.

منذ اللقاء الأخير الذي جمع بين الأسد والمبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي، ومع انسداد أفق التسوية لـ«جنيف 2»، يبدو الأسد أكثر اندفاعا إلى تطبيق السيناريو الشيشاني في سوريا، فالعاصمة السورية دمشق والمدن الكبرى، وخصوصا حمص وحلب، تتعرض لحرب تدميرية من أجل إخضاعها، بينما تستمر روسيا ومعها إيران بتزويد النظام السوري بكل ما يحتاجه من عتاد وكثير، كذلك تغض موسكو الطرف عن قتال ميليشيات تابعة لطهران في مقدمتها حزب الله اللبناني إلى جانب الجيش النظامي، على أمل فرض أمر واقع معين على الأرض، بعد أن تبين أن الأسد عاجز عن تحقيق النصر بمفرده، ليكون الأمر الواقع المرجو منطلقا لعملية انتقال سياسي، يضمن لموسكو الحفاظ على تبقى لها من مصالح في سوريا، ومن ثم العودة بقوة إلى الساحة الدولية من البوابة دمشق.

في المقابل وإزاء التعنت الروسي وتغطية موسكو الكاملة للأسد، تتجه الولايات المتحدة ببطء وحذر شديدين، نحو تكرار سيناريو أفغانستان في سوريا، بعد أن أرغمت بعض مراكز صنع القرار في واشنطن وحلفاؤها الإقليميون إدارة أوباما على تغيير جزئي في قواعد الاشتباك مع موسكو، وبعد أن أدت حساباته الخاطئة في سوريا والمنطقة وتراجع الدور الأميركي إلى اندفاعة روسية قد يصعب احتواؤها لو سمح لها بتحقيق أهدافها في سوريا.

تحت ضغوط عربية وإقليمية قدمت واشنطن بعض التنازلات في السماح الغامض والملتبس وغير المبرمج، والذي يشك البعض في إمكانية تنفيذه، بتزويد مقاتلي الجيش السوري الحر بأسلحة فتاكة، يحتاجها من أجل صد هجمات الجيش النظامي ووقف تقدمه، يضاف إلى ذلك محاولات جادة من قبل القيادة العسكرية للمعارضة، من أجل تطهير صفوفها من العناصر المتشددة.

كان الاحتلال السوفياتي لأفغانستان آخر مواجهات الحرب الباردة غير المباشرة، التي استغلتها واشنطن من أجل إغراق موسكو بالوحل الأفغاني، وجعلها تدفع ثمنا «بأبعاد عسكرية وسياسية واقتصادية»، كان له الأثر المباشر على مستقبل الاتحاد السوفياتي.

فعندما قررت إدارة الرئيس رونالد ريغين تزويد المجاهدين الأفغان بصواريخ «استنغر»، كانت تعرف ضمنا أنها قررت قلب المعادلة الأفغانية، تمهيدا لقلب المعادلة الدولية، فهزيمة السوفيات في أفغانستان، هي التي مهدت لسقوط جدار برلين، الذي مهد بدوره لسقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وخروج الولايات المتحدة منتصرة في الحرب الباردة.

بالنسبة للاعبين الإقليميين فإن شروط الأفغنة تتحقق في النموذج السوري، وهي الآن محط رحال أغلب أعدائهم، حيث تتدفق إليها الجماعات المسلحة السنية «الفوضوية» والشيعية «المنظمة»، وقد أصبحت مكانا جاذبا لإرهابيي «القاعدة» والجماعات التكفيرية المقاتلة من جهة، وحزب الله من جهة أخرى. وأدخلت الحزب في حرب استنزاف طويلة ووضعته في موقع المتهم بقتل الشعب السوري دفاعا عن نظام الأسد.

إن إطالة أمد الأزمة السورية تفسره رغبة واشنطن في جر طهران، إلى المزيد من الإنفاق في تغطية تكاليف المجهود العسكري والاقتصادي للنظام، وتمويل الميليشيات التي تقاتل معه، ما يكبد خزينتها خسائر فادحة، ويزيد من عزلتها عربيا وإسلاميا ومحاصرتها دوليا، ودفعها إلى خوض معركة قد لا تقبل أنصاف الحلول.

وفي حين تعتقد موسكو أن الأزمة السورية ستؤمن لها موطئ قدم، تستعيد به قليلا من دورها الدولي، وتعيد بواسطته الأمور إلى نصابها في مجلس الأمن، الذي تستطيع من خلال آلياته أن تغطي ضعف قدراتها وأدواتها، تستغل واشنطن هذه الاندفاعة، لتضع موسكو في موقع المتهم بتغطية جرائم الأسد والدفاع عن نظام يفتقد الشرعية.

وبينما تظن موسكو أن تصلبها يمكن أن يساعدها في فرض خارطة سياسية جديدة للمنطقة، تحترم نظام مصالحها الخاصة، تتطلع واشنطن إلى المزيد من الرهان على سوريا، لتصبح فخا لروسيا يجعل من سقوط الأسد المحتم في النهاية من وجهة نظر أميركية، نهاية آخر أوهام الحرب الباردة، ما من شأنه أن يفتح الطريق أمامها إلى حصار روسيا من جهتها الجنوبية الرخوة «الجمهوريات الإسلامية» واستكمال وضعها بين فكي كماشة.

لكن المفارقة السورية تكمن في أن حجم القسوة التي مارسها الروس في غروزني، دفعت سكان مدينة غودارميس، ثاني كبريات المدن الشيشانية، إلى تسليم المدينة دون قتال، في حين لا تزال أحياء دمشق ومدن حمص وحلب مصرة على المواجهة، مما يجعل تقدم النظام في بعض المناطق بعد تدميرها انتصارا، سوف تكون أعباؤه على النظام أكبر من مكاسبه، ومن علامات الأزمة العميقة التي تتجه إليها موسكو، هو أنها لا تولي اهتماما لهذه الإشكالية مما قد يحول مغامرتها في سوريا إلى مقامرة.

* كاتب لبناني

 

السابق
سعيد تعليقا على خطاب نصرالله: لا لحوار من اجل الحوار
التالي
النهار: سلام يبلغ بري موافقته على حكومة سياسية