انتفاضة الحداثة على التقليد في مصر؟

كيف يمكن أن نقرأ، ونفهم، ظاهرة خروج ملايين المصريين إلى الشارع ضد نظام حكم يرفع لواء الإسلام، وتطبيق الشريعة، والقيم الدينية؟
جماعة الإخوان المسلمين المصرية كانت متسرِّعة للغاية، حين فسّرت هذا الأمر برمته على أنه مجرد مؤامرة من النظام القديم بجيشه ومخابراته، بالتواطؤ مع القوى اليسارية والليبرالية، لإطاحة رئيسها من الحكم. فالمؤامرة، في حال وجودها، قادرة على فعل الكثير من المشاكل الأمنية والقضائية والاقتصادية (وهذا ماحدث بالفعل طيلة السنة الماضية)، لكن ليس في وسعها قط دفع ملايين المواطنين إلى الشارع وتعريض حياتهم إلى الخطر.
ثمة شيء آخر يجب أن يفهمه الاخوان وبقية الاسلاميين من وراء هذه الظاهرة، وهو دور الحداثة وأدواتها في تشكيل المجتمع المصري في القرن الحادي والعشرين. إذ دلّت التظاهرات، (التي كادت ترفع الشعار الجريء "الإسلام ليس هو الحل") على أن قطاعات واسعة من هذا المجتمع ليست في وارد قبول نشوء سلطة دينية توتاليتارية جديدة تحل مكان السلطة العسكرية- الأمنية السابقة.
وهنا نحن لانتحدث عن الديمقراطية، ولاحتى عن الليبرالية، بل عن الحداثة. إذ لو كان الأمر مقتصراً على الديمقراطية، لتعيّن أن يكون الصراع الآن ليس بين الإخوان وبين الليبراليين واليساريين، بل بين كل هؤلاء معاً وبين المؤسسة العسكرية التي تتأهب الآن بكل قوتها لإعادة السيطرة على مقاليد الحكم. ولو كان الأمر قصراً على الليبرالية، لسجّل الإسلاميون انتصارات واضحة، لأن غالبية الشعب المصري تميل إلى القيم الإسلامية لا إلى القيم المفاهيم الليبرالية.
الحداثة هي المسألة من ألفها إلى الياء. فالمجتمع المصري، أو قطاعات واسعة منه على الأقل، باتت مترعة بنمط الحياة الحديثة، بحيث لم يعد في وسعها قبول حالات الانغلاق الماضوي (أو الرجعي) الذي تطرحه عليها بعض القوى الإسلامية. ومفهوم الحداثة هنا يشمل بالدرجة الأولى فلسفة التقدم المستندة إلى التطور العلمي، ونمط التعليم الحديث، والاستخدام الكثيف للأدوات التكنولوجية الصاعية والإعلامية المتطورة، والرغبة في اللحاق بركب الدول المتقدمة اقتصادياً في الغرب والآن في آسيا.  ومن هذا المفهوم، وليس من غيره، تتفرع قيم الحريات العامة والخاصة ومسألة الديمقراطية.

مفهوم الحداثة هذا تعرض إلى نكسة كبرى بعد حرب 1967 وبعد فشل كل الأنظمة العربية في تحويل الرغبة في التقدم إلى حقيقة واقعة. وهذا، إضافة إلى تحوّل الأنظمة العربية إلى القمع والاستبداد، أفسح المجال واسعاً أمام القوى الإسلامية كي تنمو في المساجد والتكايا وجمعيات النفع العام، ولكي تكون البديل السياسي المنظّم الوحيد حين انهارت بعض هذه الأنظمة. وحين حدث ذلك، اعتقدت القوى الإسلامية أن المجتمع، المتديِّن أساساً، بات جاهزاً لقبول العديد من الصيغ اللاحديثة لمشاريعها الدينية.
لكن، يتبيَّن الآن كم كان هذا التقدير مخطئا، وكم أن الحداثة اخترقت البيئة المجتمعية، إلى درجة أن شبان حركة "تمرد" لم يترددوا في إعلان رفضهم العلني ليس فقط لفكرة الدولة الدينية بل حتى أيضاً لدعاوى الدولة الإسلامية.
وهذا حدث في مجتمع كالمجتمع المصري الذي تحجَّب 90 في المئة من نسائه، والذي يعيش 60 بالمئة منه تحت خط الفقر ويعانون من الأمية. فما بالك في مجتمعات عربية أخرى قلبت الحداثة بأشكالها كافة الحياة فيها رأساً على عقب، بما في ذلك حتى المجتمع السعودي وبقية المجتمعات الخليجية والملكية العربية؟

هل يجب أن تدفعنا هذه المعطيات إلى الاستنتاج بأن الظاهرة الإسلامية السياسية التي تكتسح المنطقة العربية هذه الأيام ستكون ظاهرة مؤقتة أو عابرة؟
الرد سيكون بالإيجاب إذا لم يفهم الإسلاميون الأبعاد الحقيقية للتمرد المليوني الراهن في مصر، وواصلوا بالتالي محاولة فرض قيم لاحديثة على المجتمع. إذ حينذاك سينشأ تحالف جديد، ومكين، بين القوى الحديثة المدنية والعسكرية ضد الإسلاميين، كما حدث في أوائل التسعينيات في الجزائر، وكما قد يحدث الآن في دول الربيع العربي.
أما إذا مافهم الإسلاميون الرسالة، فسيعملون حينذاك على تطعيم برامجهم الديمقراطية بنكهة الحداثة مع صنوها القيم الليبرالية، كما فعل زملاؤهم في تركيا، الأمر الذي سيفتح الأبواب والنوافذ أمام إدماج القوى الإسلامية في مشروع الدولة الوطنية الحديثة، وأمام طي صفحة المشروع المستحيل القائم على إدماج الدولة الحديثة بالبرامج "الرجعية".
أي المسارين الأقرب إلى التحقق؟
هذا السؤال يدفعنا إلى فتح ملف الحداثة وأزمتها ومستقبلها في المنطقة العربية. وهذا ما سنفعله في حلقات لاحقة.

 

السابق
الجسر: انعقاد الجلسات التشريعية سيضرب مبدأ فصل السلطات وتوازنها
التالي
مصدر عسكري مصري ينفي وجود خارطة طريق سياسية