أزمة سورية مديدة

قبل انعقاد مؤتمر القمة في الدوحة، استخلص أقطاب السلطة والمعارضة في لبنان أن أزمة سورية مديدة. هذه القمة عزّزت لديهم هذا الاقتناع بعدما أحلّت «الائتلاف الوطني السوري» في مقعد الجمهورية السورية لدى جامعة الدول العربية.
لقد اشتمّوا رائحة تمديد الأزمة، بل الحرب، عندما سمعوا باراك اوباما يدعو، خلال زيارته «إسرائيل»، ألى أمرين: «تنحي بشار الأسد وضرورة اعتبار حزب الله تنظيماً إرهابياً».
فأدرك نجيب ميقاتي مغزى حملة الرئيس الاميركي على أحد أبرز مكوّنات حكومته، فتذرع بعدم موافقة أكثرية مجلس الوزراء على التمديد للواء أشرف ريفي في قيادة قوى الأمن الداخلي ليعلن استقالة الحكومة.
فما علاقة التمديد للأزمة السورية باستقالة ميقاتي، والتمديد تالياً للأزمة اللبنانية؟
ثمة شبه إجماع في أروقة السياسة في لبنان على ان الولايات المتحدة وحلفاءها الإقليميين، يرعون هجوماً شاملاً تعتزم المعارضة السورية المسلحة شنّه على قوات النظام من جهة الشمال (تركيا) والجنوب (الاردن) والغرب (لبنان)، وانه سيكون له تداعيات سياسية وأمنية على الدول المجاورة. وإزاء هذا الخطر المحدق وانعكاساته، تنقسم الكتل السياسية، داخل البرلمان وخارجه، إلى ثلاث فئات:
الأولى، تستشعر خطورة الحدث الخطير وتتمسّك بسياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية صوناً للبنان من تداعياتها السلبية، وترى وجوب تأليف حكومة وطنية تخلف حكومة ميقاتي وتتمسّك بدورها، أي سياسة النأي بالنفس، كما تكون تركيبتها حصيلة توافق على قانون ديمقراطي للانتخابات يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته.
الثانية، تستخف بسياسة النأي بالنفس بدعوى انها مجرد كلام سياسي لتغطية مشاركة فعلية في الحرب الدائرة داخل سورية وعبر حدودها مع لبنان، إلى فئتين مختلفتين.
الثالثة، تقف موقفاً وسطياً بين الفئتين الأولى والثانية، وترى وجوب اختيار شخصية وسطية لرئاسة حكومة ائتلافية من الكتل السياسية الرئيسة، اي من قوى 8 آذار و»14 آذار» وقوى الوسط، على ان تلتزم فعلاً لا قولاً سياسة النأي بالنفس من جهة، ولا تلتزم وضع قانون للانتخابات على أساس التمثيل النسبي، مع استعدادها للموافقة على قانون مختلط، نسبي وأكثري، مقابل موافقة مكوّنات الحكومة الجديدة على التمديد للقيادات العسكرية (الجيش) والأمنية (قوى الأمن الداخلي) في مواقعها الحالية.
صحيح ان للقوى المحلية الوزن الأكثر تأثيراً في الصراع المحتدم، لكن تعدّديتها المرهقة وانقساماتها المتناسلة، يتيح للقوى الخارجية، ولاسيما للولايات المتحدة، هامشاً واسعاً للتدخل. فماذا تريد واشنطن؟
لا بد أنها تريد تحقيق أغراضٍ معينة لمصلحتها ومصلحة حلفائها في سورية وأخرى في لبنان.
في سورية، تريد أميركا تعزيز المعارضة المسلحة «غير الجهادية» لكبح المعارضة الإسلامية «الجهادية» من جهة، والضغط على الرئيس السوري «ليعيد النظر في حساباته» وصولاً الى تنحيه، اذا أمكن، ومن جهة أخرى القبول بإقامة حكومة انتقالية من الموالين والمعارضين والمستقلين، وتتولى السلطة التنفيذية وحدها الحكم لغاية انتهاء ولاية الرئيس الأسد مطلعَ صيف 2014، والحؤول دون ترشحه مجدداً لولاية جديدة. واذا تعذّر فرض هذا الشرط عليه، فيمكن اللجوء الى إقامة نظام برلماني لا يكون للرئيس بموجبه سلطات وصلاحيات، إذ تناط هذه بمجلس الوزراء ورئيسه كما هي الحال في العراق.
في لبنان، تريد أميركا تأليف حكومة جديدة لا يكون حزب الله مشاركاً فيها، وتتركز سياستها على النأي بالنفس عن النظام السوري والانفتاح على قوى المعارضة المسلحة لمساعدتها، بكل الوسائل المتاحة عبر الحدود بين البلدين، لتحقيق الأغراض المشار إليها آنفاً.
سؤال آخر يُطرح، هل تستطيع الولايات المتحدة تحقيق أغراضها في هذين البلدين اللذين يحلو للكثيرين تسميتهما «البلدين التوأمين» لارتباط مصيرهما ومصالحهما ببعضهما بعضاً؟
ظاهر الحال يشير الى عقبات جمّة تحول دون تحقيق الأغراض الأميركية المرتجاة. ذلك ان المشهد اللبناني ينطوي على تعدّدية سياسية مرهقة، تتصف بحيوية عملانية لافتة، وتتواصل قولاً وفعلاً مع قوى خارجية تستطيع مباشرةً او مداورةً التأثير، بمقادير متفاوتة، في الأطراف السياسية المتصارعة، الأمر الذي يطيل أمد التجاذب والصراع المرير على المكاسب والمغانم والأسلاب. والواقع أن القوى السياسية المتصارعة تدرك الحقائق سالفة الذكر وتضعها في الحسبان أثناء صناعة القرارات وتنفيذها.
من مجمل أبعاد المشهد السياسي وحقائقه النابضة، يمكن استخلاص الترجيحات الآتية:
أولها: صعوبة تأليف حكومة جديدة قبل الاتفاق على قانون للانتخابات. والحال ان ثمة صعوبات جمّة تقف في وجه الاتفاق المنشود في المدة المتبقية من ولاية مجلس النواب الحالي التي تنتهي في 20 حزيران المقبل.
ثانيها: صعوبة، بل ربما استحالة، إجراء الانتخابات قبل 20/6/2013 للأسباب السياسية المار ذكرها من جهة، وتقنية ومالية ولوجستية من جهة أخرى، ما يترك البلاد، كما القوى السياسية، تحت رحمة سيف قاطع هو قانون الانتخابات الأكثري للعام 1960 (المعدل بقانون عام 2008) والمرفوض من غالبية القوى السياسية الفاعلة.
ثالثها: إزاء صعوبة توافق قوى 8 آذار و»14 آذار»، ناهيك عن قوى الوسط، على قانون للانتخابات يرضي الجميع قبل انتهاء ولاية مجلس النواب الحالي، فإن الاحتمال الأرجح هو بقاء حكومة ميقاتي المستقيلة في حالة تصريف الاعمال فترة طويلة، الأمر الذي سيدفع قادة الكتل السياسية الى اعتماد ابغض الحلال، وهو التمديد لمجلس النواب فترة لا تقل عن ستة أشهر، أملاً بالتوافق خلالها على قانون للانتخابات لا يشعر معه اي طرف بأن تطبيقه سيؤدّي الى إلحاق الهزيمة به.
وهل ثمة عوائق واحتمالات أخرى؟
الجواب: من الممكن جداً ان تشتد الحرب الدائرة في سورية وعليها، وتفيض بتداعياتها على نحوٍ قد لا يسمح لأركان المشهد السياسي اللبناني بالتوافق على شيء، حتى على التمديد لمجلس النواب. ذلك كله يدفع البلد الى حمأة ظروف استثنائية غير مسبوقة، لعل أبرز معالمها نشوء فراغ تشريعي، وهزال السلطة الإجرائية (التنفيذية) بوجود حكومة تصريف الاعمال المحدودة الفعالية، واستشراء الفلتان الأمني.
غير ان الظروف الاستثنائية تستولد، غالباً، تحدّيات خطيرة من شأنها حمل بعض القوى السياسية المقتدرة، سياسياً وأمنياً، على اعتماد نظرية الظروف الاستثنائية. هذا يؤدّي، بالضرورة، الى نشوء شرعية استثنائية وبالتالي اتخاذ اجراءات استثنائية ليس أقلها لجوء الحكومة، حتى في حالة تصريف الاعمال، الى اتخاذ تدابير لها قوة القانون في إطار المحافظة على أمن البلاد وسلامتها وسيادتها، وتسيير الشؤون والمرافق والخدمات العامة، وتأمين المتطلبات الحياتية للناس، وإجراء اللازم للعودة بالبلاد الى حالها الطبيعية، بما في ذلك وضع قانون جديد للانتخابات ليُصار الى إقراره في استفتاء عام وبالتالي إجراء الانتخابات وإعادة تكوين السلطات العامة بطريقة ديمقراطية.
وللبحث صلة.

السابق
السلطة الفلسطينية تحمل اسرائيل مسوؤلية وفاة الاسير ابو حمدية
التالي
اخلاء سبيل نوفل الحجيري بكفالة مليون ليرة