السلفية الشيعية نمط تكفيري

 كثر الحديث في العقد الأخير عن الخصوصيات المذهبية في العالمين العربي والإسلامي، وظهرت اتجاهات كانت الى حد كبير غريبة عن الخريطة الدينية **الإسلامية، كمثل تطرق البعض الى «السلفية الشيعية» مقابل «السلفية السنيّة» الأقدم من حيث النشأة والتاريخ.
وفي ظل تعثر التيار الإصلاحي الاسلامي الذي استهلّه رواد عصر النهضة الأولى، ووسط الأصوات الداعية الى تجديد الفكر الديني على ضفتيْ الإسلام السنّي والشيعي، ومن بينها الدكتور الشيخ حيدر حب الله الذي كان لنا حوار معه، يبدو أن خطاب التطرف الذي يستمدّ جذوره من الاجتماعي والسياسي يعلو في الوقت الراهن على خطاب الاعتدال.
انشغل الدكتور حيدر حب الله في التقريب بين المذاهب وفي إرساء الحوار مع التعدد. الشيخ القادم من مدينة صور الساحلية (جنوب لبنان)، سافر العام 1995 إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند آيات الله: السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، والشيخ جوادي آملي الذي حضر عنده درس التفسير أيضاً، والشيخ الوحيد الخراساني، والشيخ حسين النجاتي، والشيخ باقر الإيرواني، وغيرهم. كما درس الفلسفة وعلم المعرفة والاستقراء عند العلامة السيد كمال الحيدري، والعلامة السيد عمار أبو رغيف، والأستاذ السيد علي أكبر الحائري.
التحق العام 1998 بالمجموعة البحثية لدائرة معارف الفقه الإسلامي، والمكلّفة تدوين أكبر دائرة معارف للفقه الشيعي، والتي يشرف عليها المرجع الديني السيد محمود الهاشمي، وفي 2009 تولّى مسؤولية المعاون العلمي لآية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي في الإشراف على دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع)، وكذلك رئاسة الهيئة العلمية بالوكالة.
درّس الشيخ حب الله كأستاذ لمرحلة السطوح في الحوزة العلمية لخمس عشرة سنة، والى جانب التدريس عمل في مجال الترجمة من الفارسية الى العربية. وفي الوقت الحالي يشغل منصب رئيس القسم الشيعي الإمامي في مؤسّسة خدمة علوم القرآن الكريم والسنّة الشريفة في القاهرة، والمكلّفة كتابة موسوعة الحديث النبوي الصحيح عند المسلمين.
من مؤلفاته: «التعددية الدينية، نظرة في المذهب البلورالي» و «نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة» و«حجية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم» و «سؤال التقريب بين المذاهب، أوراق جادّة» و«المدرسة التفكيكية وجدل المعرفة الدينية» و«العنف والحريات الدينية».
الشيعة السلفية الجذور والعقائد، المخاوف على الاتجاه الشيعي الوسطي من المتشددين، الاصلاح الديني في الإسلام، حركة الاجتهاد عند الشيعة في قم والنجف. هذه المحاور وغيرها شكلت مدار الحوار الذي أجرته «الراي» مع الشيخ الدكتور حيدر حب الله. وفي ما يأتي وقائعه:

• يتمّ في المرحلة الراهنة تداول مفهوم «السلفيّة الشيعية»، ما تعريفكم لهذا المفهوم؟
– بدأ تداول هذا المصطلح قبل نحو عقد ونصف العقد تقريباً في شكل مبعثر هنا وهناك، ولكنّه أخذ بالتنامي في الأعوام الأخيرة عقب تزايد وتيرة التطرّف المذهبي في العالم الإسلامي بعد سقوط النظام العراقي. ولا يمكن الحديث عن تعريف موحّد لهذه الكلمة، ففيما يرى بعضهم أنّ السلفيّة الشيعيّة هي تعبير عن انغلاق شيعي تامّ وسعي لاستنساخ التاريخ بكلّ تعقيداته وتجلّياته، يذهب آخرون إلى أنّ السلفية الشيعية هي نمط تكفيري يشبه النمطَ الموجود عند بعض أهل السنّة. ويبدو لي أنّ السلفيّة الشيعية ـ إذا أردنا أن نصرّ على استخدام هذا المصطلح ـ ليست طيفاً واحداً، بل هي متعدّدة الأطياف بحيث نجد شدّة هنا وضعفاً لها هناك، لكنّ معالم هذه السلفية تبدو لي في العناصر التالية:
أولاً: سعي دؤوب بكلّ قوّة للتركيز على الخصوصيّات المذهبية، مقابل تقليص الإضاءة على العناصر المشتركة بين المذاهب، وهذا ما يجرّ في شكل تلقائي إلى محاولة الحفر في التراث لالتقاط كلّ عنصر مختلف، بوصفه معلماً من معالم التشيّع.
ثانياً: توجيه سهام النقد الداخل ـ مذهبي إلى مشروع التقريب بين المذاهب واعتباره تضحيةً بالمذهب لمصالح سياسية بحتة.
ثالثاً: العمل على إخراج المذهب الشيعي من مرحلة التقية والمعارضة إلى مرحلة الإعلان والمواجهة الصريحة والشفافة.
رابعاً: رفض أن يمثل التشيّع أيّ تيار فكري آخر داخل المذهب الشيعي، والتشكيك في طهارة مولد الكثير من التيارات الفكرية الشيعيّة المعاصرة الأخرى التي لا تذهب هذا المذهب.
خامساً: المبالغة في إبراز الجوانب الشعائريّة للمذهب الشيعي وتحويلها من طقوس وشعائر ظاهريّة إلى جوهر أصيل للمذهب الشيعي، تماماً كتحويل التاريخ إلى معتقدات، وهو تحويل بالغ الخطورة.
• هل ثمّة حضور للسلفيّة الشيعية في لبنان؟ وبماذا يطالب دعاتها؟
– أعتقد أنّه رغم بعض المشتركات الفكرية بين الحركة الإسلاميّة السياسية الشيعية وما يسمّى بالتيار السلفي الشيعي، إلا أنّ نقاط الاختلاف ليست قليلة، فمهما فسّرنا فكرة الوحدة الإسلاميّة التي ينادي بها الإسلام الثوري الشيعي، فإنّ هذه الفكرة تشكّل أساساً من أساسيات نشاطه، ويرى العديد من أتباع التيار الآخر أنّ التيار الثوري الشيعي فرّط في المعتقد المذهبي لصالح الأهداف السياسية. فعندما يكون العدوّ الإسرائيلي هدفاً أساسيّاً للحركة الإسلاميّة، فيما نجد تنامياً لمعاداة السنّة في التيار السلفي الشيعي، فمن الطبيعي أن تحدث تمايزات في الأولويّات. إنّ مطالب السلفيّة تجاه الحركة السياسية الشيعية تتلخّص في ضرورة وقف ما تعتبره تنازلات مذهبيّة من جهة، والحدّ من تجاهل معاداة المذهب السلفي السنّي أو تفسيرها حرباً سياسية وليست عقائديّة، فهناك رغبة واضحة عند الاتجاه السلفي في تفسير ما يحدث في المنطقة اليوم بأنّه حرب عقائديّة مذهبية، بينما يسعى التيار السياسي وبكلّ قوّة لاعتبارها حرباً سياسية ذات خيوط عقائديّة. وهناك مبرّرات كثيرة للاعتبارين المشار إليهما. ولا يبدو لي أنّ ما يسمّى بالتيار السلفي الشيعي يمسك بزمام الأمور، بل ما زال على الهامش على مستوى القرارات الكبرى في الأمّة الشيعيّة، ولا يملك حضوراً سياسياً مؤثراً في الساحة وفي الأحداث، بل يقتصر حضوره على بعض الجوانب الإعلامية والثقافية والتعبويّة. كما لا يبدو لي أنّ تأثيره في الحركة السياسية بارز، رغم بعض عناصر الالتقاء العقديّة التي قد نجدها بينه وبين بعض شخصيّات التيارات السياسيّة. النقطة المهمّة هنا هي كيف يفكّر الفريقان في تحقيق ما يراه كلّ واحد منهما أهدافاً أساسيّة.
• هل تخافون على التيار الشيعي الوسطي (الديني) من الخطاب السلفي، تحديداً على مستوى الإيمان الجمعي لدى الجمهور الشيعي في لبنان؟
– إذا ظلّ تنامي التوتر الطائفي في المنطقة على وتيرته، فإنّ المخاوف سوف تزداد بشكل طبيعي، ويمكن قياس الأمور على ما يحصل في الداخل السنّي أيضاً، فكلّما تنامى التوتر الطائفي في المنطقة رأينا تزايداً لحضور المنطق المذهبي المنغلق في الوسط السنّي. هذا هو المنطق الطبيعي للأشياء، لكنّني أستبعد أن يصل الحال بالمجتمع الشيعي في بلدٍ مثل لبنان إلى حدّ إمساك التيار السلفي بمفاصله؛ إذ لا الوضع الشيعي يسمح بذلك، ولا المصالح العليا السياسية للجماعة يمكن لها أن تتحقّق في ظلّ وضع من هذا القبيل، ما لم نشهد ظهوراً للبراغماتية في العمل، بحيث يتحوّل الفكر السلفي من العقديّة إلى البراغماتيّة، كما رأيناه في بعض المواقع على المستوى السنّي، وهذا التحوّل نحو البراغماتية، والذي يفرضه الواقع الضاغط اللبناني الذي لن يسمح بخطاب طائفي لمدّة طويلة، سوف يترك أثره مرةً أخرى على البنية الفكرية والثقافية شئنا أم أبينا، فهناك علاقة جدليّة، فالخطاب المذهبي المنغلق يمكن أن يحظى بشعبيّة في ظلّ تشنّج طائفي، لكن عندما يؤدي التشنّج الطائفي إلى انفجار كبير لا يتحمّله المذهب هنا أو هناك، فهذا يعني أنّ الخطاب المذهبي سيخضع للتشذيب انسجاماً مع ضرورات المرحلة (البراغماتيّة)، ويترك هذا الأمر على المدى البعيد تأثيره في تحويل الخطاب المرحلي البراغماتي إلى جزء من الخطاب الديني العام، فاسحاً المجال مرةً أخرى لتيار تقريبي غير منغلق. إنّ بلداً مثل لبنان لا يمكنه في تقديري تحمّل خطاب سلفي منغلق لفترة طويلة، سواء كان شيعياً أم سنيّاً أم غير إسلامي، حتى لو رأينا فيه بعض الجيوب السلفية هنا وهناك عند هذا المذهب أو ذاك، ممّا يمكن أن يستخدمه السياسيّون بمثابة أوراق ضغط لا أكثر.
ويمكنني أن أشير أخيراً إلى أنّ الشيعة في لبنان وإن تعرّفوا خلال العقود الأخيرة على قراءات جديدة ومختلفة للتشيّع ما كانوا ألفوها من قبل، إلا أنّ عقليّة التعايش والتسامح والتواصل لاتزال مسيطرة عليهم نتيجة التراكمات التاريخية الكثيرة لظروفهم وتجاربهم، بوصفهم أقليّة كانت تسعى على الدوام لعدم تثوير الأكثرية ضدّها بما يفسد عليها مصالحها، وهذا ما يحول دون تبنّيهم بسهولة خيار مواجهة الأكثرية المحيطة بهم في المنطقة ويضعف من الخطاب الديني المتشدّد مذهبيّاً عندهم ويزويه في دوائر صغيرة مغلقة، أو يحوّله إلى مجرّد خطاب ديني داخلي.
• ما رأيكم في حركة الاجتهاد عند الشيعة، وتحديداً لدى المراجع الدينية في قم والنجف؟
– يمكنني بكلّ ثقة أنّ أقول ان حركة الاجتهاد عند الشيعة شهدت نمواً غير طبيعي خلال القرن الأخير، ففي هذا القرن شهدنا أكبر التنظيرات الأصولية والفقهيّة عند الإماميّة، تلك التنظيرات التي عملت بقوّة على إخراج الفقه الشيعي من وضع منغلق منكمش إلى وضع منفتح حيوي مختلف، وفي هذا القرن ظهر عمالقة في الفكر الشيعي التجديدي. ينبغي الإقرار بأنّ مثل هذه الأمور صارت اليوم من الواضحات، ويبدو لي أنّ التيار التجديدي في الاجتهاد الشيعي ما يزال سائراً بوتيرة جيّدة نسبيّاً، لكنّ هذا لا يمنع عن تأثير حالة الانغلاق الإسلامي العام الذي لفّ العالم العربي والإسلامي منذ بدايات العقد الأخير من القرن الماضي.
والمطلوب اليوم هو الاستمرار في مسيرة العقلانية الفقهيّة عبر إنتاج نُظُمِ اجتهادٍ فقهي متين، وعدم الخوف من نقد التيارات المتشدّدة، وعدم مراعاتها أو مجاملتها في شكل مفرط؛ لأنّ مشكلة حركة التجديد أنّها باتت تخشى على نفسها أن تفقد حضورها في داخل المؤسّسة الدينية، فتقلّل لذلك من سرعتها ونشاطها التجديدي مراعاةً للحال القائمة التي باتت تميل إلى فضاء اللامعقول، ولهذا بتنا نجد عودةً قويّة في بعض الحوزات العلميّة لمناهضة الفكر الفلسفي العقلاني عامّة واتّهامه بالهرطقة والزندقة، رغم ما شهدناه من تطوّر الدرس الفلسفي خلال الفترة الأخيرة مع مثل العلامة الطباطبائي والسيد محمد باقر الصدر.
• هل تعتقدون بضرورة إحياء التيار الإصلاحي عند المسلمين في ظلّ سطوة الخطاب الديني المتشدّد؟
– إذا كانت هناك كلمة أقوى من كلمة الضرورة والحتمية واللزوم فإنّني أتبنّاها. نحن اليوم في أشدّ لحظات تاريخ أمّتنا حاجةً للعقل الإصلاحي المتوازن والمدروس، ولو تركنا الأمور للتديّن المنغلق المتشدّد والإقصائي عند مختلف المذاهب فقد لا تقوم لنا بعد ذلك قيامة. يجب الوقوف صفّاً واحداً في مواجهة التديّن التاريخي الاستنساخي الماضوي، وفي الوقت عينه عدم التضحية بالقيم والمفاهيم الدينية الثابتة، وهذا لا يكون إلا بالتعاون والتنسيق بين مكوّنات حركة الوعي الديني على اختلاف انتماءاتها المذهبية والسياسية والاجتماعيّة والفكريّة. وكذلك نحن بحاجة إلى نقد الذات، فقد أخفقنا في امتلاك قلوب جماهير الأمّة في غير موقع، وإنّني من الرافضين بشدّة للتطّهر الذي يمارسه بعضنا عبر لعن الأمّة واتهامها بالتخلّف والرجعيّة، وتنزيه الذات من التقصير والتعويض بقذف الآخرين. أعرف أنّ الظروف عصيبة على حركة الوعي الديني التجديدي، لكنّ هذا لا يمنع من وجود عناصر متعدّدة للقوّة ينبغي استغلالها.
• كيف تقوّمون تجربة دعاة التجديد الديني في إيران، تحديداً عبد الكريم سروش؟
– إنّ تجربة التجديد الديني المتأخرة في إيران تبدو لي تعاني من مشاكل جمّة، فمن جهة خرج سربٌ لا يستهان به من دعاة التجديد الديني في إيران عن إطار الإصلاح الديني، ليختاروا رفض الدين أساساً ويميلوا نحو وجودية سارترية أو إلحاد جديد، وهذا الفريق وإن بدأ يقوى في الفترة الأخيرة بسبب الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة، إلا أنّني أعتقد بأنّه لم يقدر بعدُ على تحريك الحالة القائمة وإيجاد زحزحة فيها؛ لأنّ المجتمع الإيراني مجتمع ديني محافظ أو مجتمع روحي مؤمن، وخطاب من هذا النوع من شأنه أن يُفقد صاحبه قدرة التأثير المجتمعي ويعزله في حصار النخبة وأوهامها؛ لأنّ مخاطبة أجيال لم تأتِ بعد كمخاطبة أمم قد ماتت، لن تجد لها آذاناً صاغية تسمع. أمّا السرب الآخر من دعاة التجديد الديني فهم أولئك الذين فضّلوا الهروب نحو التصوّف والعرفان؛ لأنّ المشكلة التي يعتقدون أنّ الوضع القائم دينياً يعاني منها ترجع إلى عنصرين: العقيدة والشريعة، فكلّما حرّرنا الدين من الاعتقادات والشرائع صرنا أكثر تسامحاً وأقلّ عنفاً، وبتنا نقترب أكثر من المشاركة والتعدّدية والديموقراطية وغير ذلك من الأمور التي تتوق إليها اليوم المجتمعات الإسلاميّة عموماً. ويبدو لي هذا الفريق أكثر قدرةً على التأثير في المجتمع الإيراني من الفريق الأوّل؛ لأنّ الشخصية الإيرانية في عمق تراثها وتاريخها تميل إلى النزعة الروحية العميقة، وتغرّد محلقةً في رحابها، ولإيران تاريخ عريق ومذهل حقّاً في عالم التصوّف والعرفان والفلسفة الروحية يستحقّ كلّ تقدير واحترام، من هنا فهذا الطرح يدغدغ عناصر عدّة في الشخصية الإيرانية، ويمكنه أن يشكّل بديلاً في مكان ما. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ هذا الفريق كأنّه يريد أن يفرّ من وضع قائم دون تحديد الأوضاع الأخرى بشكل دقيق، كما أنّ بعض المنجزات الفكرية لهذا الفريق بات يدخل في العقد الأخير إطار الإثارات الإعلاميّة والتوظيف السياسي أكثر من إطار تقديم منجزات فكريّة واجتماعية معمّقة ومتأنيّة ومدروسة، كتلك التي شهدناها مع بعض رموز هذا الفريق منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي إلى بدايات القرن الحالي، كما أنّ لديّ شعوراً قويّاً بأنّ الكثير من المنجز الفكري مؤخّراً بات مجرّد أصداء غاضبة من الوضع القائم أكثر من كونها مشاريع فكريّة نهضويّة قادرة على تحسين الوضع لو أمسكت الأمور بيدها.
إنّ تحوّل الفكر التجديدي من إطار الوعي البدائلي إلى إطار الجمود على المعارضة النقديّة، يضعنا أمام ما يشبه ما حصل تماماً مع بعض الحركات الإسلاميّة في عصر ما قبل إمساكها بالسلطة، إذ تحدث عادةً فجوة كبيرة تعيد لنا خيبة الأمل عندما تصبح الأمور بيدنا، لهذا فإنّ مشروع التجديد الديني في إيران مطالب برسم بدائل واضحة ورؤى ناضجة لصيغ العيش وأنماط الحياة التي يراها، وحلولاً معقولة لأزمات الشباب المعاصر. وإطلاق الشعارات العريضة والكلام العام والأفكار ذات الطابع الكلّي لم يعد يكفي لتحقيق النجاحات المرجوّة أو ضمان استمرارها لو تحقّقت.
• ما رأيكم في وثائق الأزهر، لا سيما الوثيقة التي تحدّثت عن التعدّدية واحترام الآخر؟
– مثل هذه الوثائق وغيرها ضروري ولازم من حيث المبدأ ويفتح أمامنا أفقاً جديدة لتغيير الوضع القائم، لكنّ القضيّة ليست في إصدار بيانات وإعلانات من هذا النوع، بل في خلق ثقافة تعدّدية مجتمعيّة، وهذا الأمر لا تشكّل مثل هذه البيانات سوى مقدّمة أولى بسيطة له، لا سيما عندما لا تملك الجهة المصدّرة تمام مفاصل المجتمع الديني أو أغلبها على مستوى العالم الإسلامي، نظراً لتعدّد الأقطاب والتيارات الدينية التي تتخذ لنفسها مرجعيّات مختلفة. وغالباً ما يتلقّى الشارع المسلم مثل هذه المواقف من المرجعيات الدينية على أنّها مراعاة دينية مرحليّة لحاجات سياسية قائمة ومؤقتة، لهذا فهو لا يرى فيها جديّة الرؤية الدينية في مسألة الآخر والحوار والتعدّدية، الأمر الذي يفقدها مع الأسف فعل إحداث تغيير حقيقي في قراءتنا للآخر. لا نريد للمؤسّسة الدينية الشيعية والسنيّة أن تنطلق من موقع محاكاة فقط، بل من موقع رؤية حقيقية جادّة نابعة من الصميم ومن اقتناع ديني عميق، وهذا ما أجد أنّه لم يحصل حتى الآن في كثير من المواقع، بل هذا هو ما يجعل المتديّن العربي والمسلم أقرب إلى ثقافة الخطاب السلفي منه إلى خطاب من هذا النوع؛ لأنّ الخطاب السلفي يقدّم له رؤية جادّة منطلقة من إرث ديني له تاريخ طويل، بينما لم يقدر الخطاب التجديدي في بعض مواقعه أن يشرعن نفسه دينيّاً؛ وغالباً ما يستند إلى ضرورات الواقع في شرعنة ذاته، الأمر الذي يجعله عرضة لنقد التيار السلفي من موقع أنّه لا يقدّم سوى اجتهادات في مقابل النص المقدّس، أو ابتداعات في مقابل السنّة وسيرة السلف؛ لهذا فلا تجده يقف على أرض دينية صلبة، وهذه نقطة ضعف أساسيّة ينبغي التنبّه لها، وهي تفرض ـ إلى جانب الإصلاح الرؤيوي الخارج ديني ـ إصلاحاً من الداخل، أي من بنية النصوص وتفسيرها، يحاكي طرائق العقل التقليدي في الاجتهاد الديني. إنّ مجتمعاتنا هي مجتمعات دينية أيديولوجية عاطفيّة فلا بدّ أن نشتغل عليها بطريقة خاصّة لا تثير انفعالها أو تجرح نرجسيّتها في مكانٍ ما.
• ما رأيكم في خطاب السلفيّين في دول الربيع العربي تجاه المرأة والأقليّات؟
– مع احترامي لكلّ الاجتهادات الدينية، إلا أنّني أختلف مع هذا الخطاب في عدّة جوانب. فمن جهة أجد أنّ الأسس التي يقوم عليها هذا الخطاب – على مستوى الاجتهاد الشرعي – تفتقر في بعض جوانبها إلى الأدلّة المقنعة دينيّاً وعقليّاً، فكثيراً ما بتنا نستند في الاجتهادات الدينية إلى الاستنسابات الشخصيّة، أو إلى مجرّد إجماع العلماء السابقين الذين يحقّ لنا الاختلاف معهم، أو إلى الأعراف غير الحجّة التي كانت شائعة سابقاً، أو إلى نصوص دينية غير مؤكّدة وضعيفة المصدر والإسناد والمضمون، أو إلى نصوص آحاديّة في الحديث الشريف لا ترقى إلى مستوى البتّ الشرعي بها، لا سيما مع عدم أخذنا بعين الاعتبار مرجعيّة القرآن الكريم في الحكم على أحاديث السنّة الشريفة صحّة وضعفاً، وكذلك بعض مناهج فهم النصوص وهي تلك المناهج التي لا تأخذ سياقات صدور النصّ ونزوله بعين الاعتبار، ممّا يبتر النصّ عن سياقه، وينتج بالتالي فهماً غير صحيح له. وليس المجال مجال الدخول في مقاربات اجتهادية نقديّة في هذا الموضوع، لكنّ هذه المشكلة قائمة. كما أنّ فوضى الإفتاء وتعدّد المرجعيات الدينية الصغيرة الحجم يولّد بشكل تلقائي وهناً في الاجتهاد الشرعي الذي يخلق ثقافةً هنا أو هناك، فكلّ من يملك بعض المعلومات البسيطة باتت تشرئب عنقه للتصدّي للإفتاء أو للتصدّي لخلق ثقافة دينيّة، انطلاقاً من وعي غير عميق للنصوص واللغة والتاريخ. لنأخذ مثال المرأة فالنصّ القرآني واضح في الأمر بالعشرة بالمعروف، ولكنّ الكثير من تفاصيل ثقافتنا الدينية تكوّن عشرةً بالسوء بين الرجل وزوجته. والنصّ القرآني واضح في أنّ للمرأة ولايةً داخل الجماعة الدينية (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، بناء على تفسيرها بالولاية المصطلحة، أمّا نحن فنجعل المرأة مخلوقاً منبوذاً لا يرقى إلى مستوى المشاورة معه، ولا يحقّ له الترشّح بل ولا الانتخاب، انطلاقاً من ثقافة حديثية غير منقّحة في كثير من الأحيان.
على خطّ آخر، أجد أنّ الكثير من الخطاب السلفي لا يراعي الزمان والمخاطب وعناصر الإقناع ومناهج التدرّج والعمل المراحلي، وذلك بحجّة أنّه خطاب لا يخاف في الله لومة لائم، فالأنبياء جاؤوا ليخاطبوا الناس على قدر عقولهم، واستخدموا لغتهم ليصلوا إلى عقولهم وقلوبهم ووجدانهم، وكانت الرحمة في خلق النبي عنصراً مساعداً على جذبه الآخرين.
لست أدّعي كما يحاول بعضنا أن يقول بأنّ الدين يساوي الديموقراطية والدولة المدنية المعاصرة بكلّ تفاصيلها، فهذا كلام يحتاج للكثير من النقاش، لكن أزعم أنّ لغة الخطاب الديني السلفي في كثير من مواقعها هي لغة منفّرة للآخر الذي يفترض أن أبني معه حياةً مشتركة أو أقرّبه من الإسلام وأحسّن صورته أمامه.
• ما رأيكم في إمامة المرأة لصلاة مختلطة، كما فعلت آمنة ودود؟
– هذا الموضوع يدرس في الاجتهاد الشرعي، ولكلّ إنسان يملك مقوّمات هذا الاجتهاد الشرعي أن يطرح رأيه، وللآخرين أن يناقشوه بكلّ شفافية ووضوح. وللفقهاء المنتصرين للتحريم أدلّة متعدّدة، والإمام الخوئي ـ مع إفتائه بعدم جواز إمامة المرأة للرجال، نتيجة بعض الأدلّة الاجتهادية التحليلية ـ لكنّه يقرّ بعدم وجود آية ولا حديث شريف معتبر السند يثبت ذلك، وهناك من يرى أنّ الفقيه الإمامي الشيخ ابن حمزة الطوسي المتوفى في القرن السادس الهجري، كان لا يرى شرط الذكورة في إمام الجماعة شرطاً لازماً، ويظهر من الفقيه الإمامي الكبير الشيخ ابن إدريس الحلي (598هـ) وهو المعروف بنقده الفقهي، أنّه يرى وجود احتمال في تجويز إمامة المرأة للرجال، وإن مال في نهاية المطاف إلى التحريم. وقد أفتى أحد مراجع الشيعة الحاليين في إيران، وهو الشيخ يوسف الصانعي، بجواز إمامة المرأة للرجال والنساء معاً، وذكر ذلك في تعليقته الفتوائية على كتاب تحرير الوسيلة.
لكنّني لا أعتقد أنّ مشكلة المرأة تكمن في مثل صلاة الجماعة، حتى نحاول التركيز على هذا الأمر، فالمرأة اليوم تحتاج لحق العمل والتعليم في وطننا العربي، وتحتاج للحماية من العنف الأسري الجائر، وتحتاج للحضور في الحياة السياسية والاجتماعيّة، وهذا ما يتطلّب اجتهادات دينية على هذا الصعيد، وسنّاً للقوانين المساعدة على خلق مناخ لهذه الأمور. أمّا مسألة إمامتها لصلاة الجماعة فهي شأن تعبّدي ديني. وفي مجال العبادات في الدين نحن نجد الكثير من الأمور التي تحوي شكلاً من أشكال التعبّد الذي لا يعني بالضرورة رسالة معيّنة ذات بعد سياسي أو اجتماعي، مثل أعمال الحج وتفاصيله التي لا تزال تبدو لنا غير واضحة من حيث تفاصيل عقلنتها.

السابق
عون: نسمع دائما ان السياسيين فاسدين ومن عمم هذه الكلمة هو الفاسد والسارق
التالي
الشرق الأوسط: اللجنة النيابية تتسلم اليوم آخر اقتراحات قانون الانتخاب