الفجور في مشهدين

وراء كل اختلاف مذهبي صراع سياسي. يبدأ المذهب بالسياسة وينتهي بالطقوس. مع الزمن تصير الطقوس ثابتة، وتتلقى السياسة إشاراتها منها؛ ويصبح ذلك مسار التعمية. لا يستطيع نظام الاستبداد الاستمرار أو تجديد نفسه من دون تعمية.
في العالم الإسلامي ثلاث دول كبرى لديها الكثير من الإسلام السياسي الذي تريد تصديره. أحد مسؤولي هذه الدول سمى الأمر «مدى حيوياً» لتركيا؛ بما يذكرنا بادعاءات النازية. تركيا طاردتها أوروبا وطردتها (بالأحرى لم تقبلها في الاتحاد) فتبنت الإسلام السياسي؛ مع قضية فلسطين طبعاً، وإن كان الدوزان مخففاً. إيران دخلت في صدام مع الولايات المتحدة، منذ أول الثورة، فتلونت صادراتها بالعداء للإمبريالية، مع استعداد دائم للتفاوض؛ بالطبع فلسطين واجهة قضاياها. مصر الثورة ابتلعها الإسلام السياسي؛ يُقال إنه صنع في أميركا. تعاني مصر مشكلة في التصدير برغم أن إسلامها السياسي لديه مشروع قديم يتعلق بأستاذية العالم. الوحيدة بين هذه الدول الثلاث التي لديها حدود مع فلسطين هي مصر، وقد أعطي الإسلام السياسي فيها انتصاراً في غزة لحرب لم تحدث.
الإسلام السياسي لإيران عالي النبرة يشبه حفلات موسيقى البوب الشعبية. الإسلام السياسي لتركيا رتيب الأنغام تتخلله ألحان متعددة، فكأنه سمفونية أو ما يشبه ذلك. الإسلام السياسي لمصر وصلات متقطعة لبرنامج موسيقي يريد له المنتج أو مبرمج الاحتفال شيئاً بينما يريد لاعبو الموسيقى على المسرح شيئاً آخر.
لا ننسى تشكيلاً سياسياً إسلاموياً رابعاً هو دول النفط في الجزيرة العربية وعلى رأسها السعودية وقطر. الأولى تصدِّر بضاعتها من دون أن تعلن عنها. لا تجرؤ على الإعلان، فذلك يغضب السادة الإمبراطوريين. تناقضاتها الداخلية تجبرها على الاستسلام للإمبراطورية؛ وقد فعلت ذلك منذ البداية. قطر تحاول تقليد كل من الدول الأخرى للإسلام السياسي، لكنها حتى الآن موضع شك في أن تستطيع إدارة دورة أولمبية رغم توفر الأموال.
بدا الصراع المذهبي كركوزياً في المؤتمر الصحافي الذي عُقد بعد لقاء رئيس جمهورية إيران، أحمدي نجاد، مع شيخ الأزهر. لم يستطع الطرفان الإعراب للإعلام عما دار في الاجتماع الذي عقد قبل دقائق. ربما كان أحمدي نجاد يخوض في مصر مفاوضات سياسية مع رئيسها محمد مرسي، ويخوض مفاوضات دينية مذهبية مع شيخ الأزهر؛ واكتشف الجميع انفصال (بل تناقض) الدين عن السياسة. في الأمر علمانية لا يريد أطراف التفاوض الاعتراف بها.
منظر سوريالي هو مؤتمر قمة «منظمة المؤتمر الإسلامي» الذي يعقد على أرض الإسلام السياسي المصري؛ وهو الأكثر رسوخاً. تعم الوطن العربي ثورة من المحيط إلى المحيط. شعارها «عيش، حرية، كرامة، عدالة اجتماعية». يمثل المجتمعون أكثر ما يتناقض مع هذا الشعار، بالأحرى هذا المطلب. الفروق الاجتماعية والفجوة في المداخيل بين الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة هي الأكثر اتساعاً في العالم. وفي اليوم الذي يفتى بقتل قادة جبهة الإنقاذ في مصر، يقتل مناضل تونسي على يد الإسلام السياسي بتهمة العلمانية؛ كأن العلمانية تهمة. سدنة هيكل الإسلام السياسي جعلوا العلمانية تختصر مطالب الشعوب العربية. وقد صارت الثورة لا تتعلق بالصراعات الدينية والمذهبية ضد الخصوم الذين يجري تكفيرهم، بل تتعلق بعيش الشعوب الإسلامية المتدينة في ظل حكومات الإسلام السياسي. إسلامية الشعوب العربية تتعلق بالدنيا وتعتبر العلاقة مع الله أمراً سوياً؛ أمراً مفروغاً منه. حكومات الإسلام السياسي لديها مشكلة مع الدين والدنيا. مشكلتها أنها لا تعرف شعوبها، أو لا تريد أن تتعرف إليها أو تخضع لإرادتها. تنقلب على شعوبها وتمارس الاستبداد.
هو إسلام سياسي يحضنه الغرب الإمبراطوري ويطارده في آن معاً. يحضنه كي يؤدي المهمة في استمرار الاستبداد، الذي سبق أن مارسه العسكريون العلمانيون الحداثيون. ويطارده لأنه يعتبره مقصراً في تأدية مهامه. هو متهم دائماً بقضية فلسطين التي لا يستطيع أي إسلام سياسي، مهما كانت تلاوينه القومية، أن يتخلى عنها. هذه القضية هي التابو (المحرم) الأكبر عند الغرب الإمبريالي. يريد هذا الغرب أن تكون الصهيونية الإسرائيلية وجهاً آخر للإسلام السياسي؛ وهذا لا يستطيع الإقرار بذلك. حتى تركيا، ذات التاريخ الطويل، والمستمر حتى الآن، مع إسرائيل تضطر إلى الانتفاض أحياناً.
في نظر الغرب لا يؤتمن الإسلام السياسي على شيء. هو مصدر الإرهاب، سواء كان موصوماً أم حقيقياً. هذه أيضاً وجهة نظر الشعوب العربية، لكن لأسباب مناقضة تماماً. كل ذلك يدفع الإخوان المسلمين في مصر إلى تقديم أوراق اعتمادهم للغرب باغتصاب مادي للنساء (وللذكور) في الساحات العامة، كما في السجون والمعتقلات. أمر السجون والمعتقلات معروف ومكرر. لكن الجديد هو الساحات العامة التي يُراد لها أن يلغى دور السياسة فيها. يغتصب الناس في الساحات العامة كما اغتصبت فلسطين. فعل الاغتصاب مرتين لكسر إرادة الشعوب. اغتصاب فلسطين صهيونية سياسية؛ اغتصاب الناس صهيونية أنثربولوجية. لا بد وأن علماء الأنثروبولوجيا قدموا استشارات هامة لمن يدير الأمور في مصر.
ترتفع أصوات الشقاق المذهبي في مصر. نرى ذلك يومياً على الشاشات. لقاء الأزهر هو ما يبين من جبل الثلج. المخفي أعظم. لكن الشعوب العربية لا تعرف، ولا تريد أن تعرف الفرق بين المذاهب. هذه قضية نخبوية. من يدرس تاريخ الإيديولوجيات والمذاهب الإسلامية يدرك أن خلافاتها لا تمت بصلة إلى مطالب الشعوب العربية، ويدرك أن هذه الخلافات يقصد منها التعمية لحجب الصراعات السياسية، لحجب مطالب المجتمع بالعيش والكرامة الإنسانية. يخاف المجتمعون في مؤتمر القمة الإسلامية حركة المجتمع في الشارع، لذلك لا يتطرقون إلى ذكرها. ربما يعرفون جيداً، إذا كانوا يعرفون شيئاً، أن الشعب لا يصير شعباً إلا في اللحظة الثورية، إلا في الشارع، إلا في المجال العام. اغتصاب المجال العام هو برنامج الثورة المضادة.
فوجئ جميعهم بعدم سكوت المغتصبات والمغتصبين. وقد تنبأ الشاعر مظفر النواب بعدم السكوت في قصيدة «وتريات ليلية» عندما خاطب أولاد… (وكان يقصد بهم أهل السلطة) قائلاً «هل تسكت مغتصبة»؟
الفجور المذهبي من أجل حرب أهلية تشتت إرادة المجتمع. والفجور الجنسي لكسر إرادة الناس في الميدان، وجهان لعملة واحدة هي الثورة المضادة.   

السابق
الرسالة البلغارية وصلت وحزب الله يعرف الباقي!
التالي
إسرائيل تختبر حزب الله