الكمين: الوجه الحقيقي لـ14 آذار

ارتدّ ثقل 14 آذار الشعبي إلى ماضيه: باتت «ساحة الوحدة الوطنية» و«الدولة لا الدويلة» و«الجيش هو الحل» شعارات من الماضي. يمكن النائب السابق فارس سعيد أن يكتب ما يشاء في بيانات أمانته العامة، يرى الرأي العام يومياً أن العلم اللبناني ما عاد علم هذا الجمهور، ولا الجيش اللبناني جيشه ولا النشيد الوطنيّ نشيده
حتى شباط 2005 كانت بلدة عرسال واحدة من المعابر الحدودية المنسية، يحييها ويميتها قرار استخباراتي سوري يسهل تهريب المواد الغذائية والغاز والمازوت أو يمنعه، لم يسمع بها غالبية اللبنانيين. أما بعد «جريمة العصر»، فكانت كل المواكب التي تصل إلى ساحة الشهداء موكباً، والعراسلة موكباً آخر. كان يكفي أن يلوح العلم اللبناني الممهور بالختم العرساليّ من بعيد حتى يفسح المعتصمون الطريق أمام البعلبكيين المغبونين انتخابياً ليبلغوا بطبلهم وزمرهم ودبكتهم المنصة.

ولطالما ردد خطباء الاحتفالات الثورية عن حق، أن ساحة 14 آذار لا تكتمل من دون عرسال. قيمة «خزان الثورة» و«مدرسة السيادة» و«الرمز الاستقلاليّ» بحشدها الشعبيّ الكبير أولاً، وبانقلابها السياسي ثانياً بوصفها إحدى «المناطق السورية» سياسياً كما جغرافياً واقتصادياً. فبعيداً عن الهيئات الاقتصادية والمصرفية وبعض «تانتات» الأشرفية، مثلت عرسال وما يشبهها في وادي خالد وتخوم بيروت وصيدا وطرابلس وقرى أكروم ومدينة المنية أعمدة الأساس في ساحات 14 آذار. وكانت استفاقة هؤلاء على سيادة لبنان الكبير واستقلاله عن مملكة الملك فيصل العربية أساس السحر الذي غمر تلك الساحات. ما كان يمكن أبناء جبل لبنان التصديق أن العكاريّ والبعلبكي والضناوي يهتفون معهم لفصل المسار عن سوريا والمصير ويريدون مثلهم «لبنان القوي» بمؤسساته وجيشه.
إلا أن عرسال ومناطق نفوذ تيار المستقبل شمالاً وبقاعاً وجنوباً توحي يومياً بطيّها تلك الصفحة: من رفعوا آلاف الأعلام اللبنانية على شرفاتهم قبل 4 سنوات تضامناً مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في منطقة البداوي الشمالية مثلاً نزعوها قبل بضعة أشهر لرفع أعلام الثورة السورية محلها. وفي طريقهما إلى عرسال، النائب السابق فارس سعيد وصديقه مرشح القوات في المتن الشمالي آدي أبي اللمع كانا عبثاً يبحثان عن «لبنان أولاً»، سواء في أحاديث مستقبليهم أو على جدران البلدة. باتت صور الرئيس رفيق الحريري نفسه عملة نادرة في مناطق نفوذ تيار المستقبل المفترض. في البداوي، حوّل أنصار الجيش السوري الحرّ جسراً للمشاة إلى ما يشبه أبواب الحارات السورية في مسلسل باب الحارة، يظن من يعبرها أنه دخل الأراضي السورية. من دمروا بسواعدهم نقاط الاستخبارات السورية الأمنية (بعد تأكدهم من إخلائها ومغادرة من كانوا فيها الأراضي اللبنانية إلى غير رجعة) استحدثوا منذ عام في الطريق من العبدة إلى حلبا نحو ثلاثين نقطة أمنية، في طريق لا يتجاوز طوله عشرة كيلومترات. يرهب النائب خالد ضاهر معارضيه كما لم يفعل أصدقاؤه السابقون في الاستخبارات السورية. ولم تلبث مناطق السيادة المنشودة أن تنازلت عن سيادتها لمسلحين يذهبون ويجيئون فيها ويطببون مجاناً بمستشفياتها، بكامل حريتهم. ولا يكاد عنصر أمن يوقفهم حتى يتهموه بالتشبيح ويصبح هو الموقوف. بحجة تسلّح حزب الله شرعوا لأنفسهم التسلح، مشغولين بإنشاء دويلاتهم عن اشمئزازهم المفترض من دويلة حزب الله. وبدل السؤال عمّا يفعله كل هذا الكمّ من المقاتلين الإسلاميين والسلاح الخفيف في عرسال، غدا السؤال عمّا كان يفعله الجيش هناك، مع وقاحة إضافية حول مبرر صعود الجيش إلى الجرد، كأنها منطقة محظورة عليه يمنع تجوله فيها.
باختصار، تشهد مناطق نفوذ قوى 14 آذار حالة (تعرفها أو لا تعرفها مناطق أخرى، لا همّ) من الغليان المذهبي، يرفض بموجبها المسّ بسيادة الجيش السوري الحر ومشتقاته السلفية على أراضيها. فما حصل في عرسال أخيراً ليس إلا حدثاً صغيراً مقارنة بما كاد يحصل في عكار حين قتل الشيخ أحمد عبد الواحد. وقد تراكمت الروايات يومها عن حواجز طيارة لأنصار عضو في قوى 14 آذار وكتلة المستقبل النيابية، عمدت إلى إيقاف الباصات للتدقيق في هويات الركاب، بحثاً عن عناصر في الجيش اللبناني من طوائف محددة. ولا يزال بعض ركاب الباصات يتلعثمون في الحديث حتى اليوم عما اختبروه يومها. وحينذاك، انطلقت حملة تحريض مماثلة للقائمة اليوم، أرادت الإيحاء بأن من قتلوا عبد الواحد إنما هم من الطائفتين الشيعية والمسيحية، قبل أن يدحض التحقيق العسكريّ كل ذلك. وما رفض رئيس بلدية عرسال المسّ العلني مراراً وتكراراً بإمارته إلا جزء من مشهد عام باشر بموجبه أعضاء في المجلس النيابي وفي كتلة المستقبل طبعاً إجراءات طرد الجيش من مناطقهم. وبعيداً عن البيانات الإذاعية المرحبة أبداً بسلطة الجيش، تمنع هذه المؤسسة من التحرك فعلياً في معاقل نفوذ المستقبل. ويتحدث أحد مراجع الشمال الأمنية عن مشهد عرسالي آخر كاد يرتسم حين قررت وحدة من الجيش دهم أحد مستشفيات طرابلس لتوقيف مطلوب. فيما ألزم الوزير فيصل كرامي مرافقيه بعدم إخبار زوجاتهم حتى عن هول ما رأوه وسمعوه يوم كاد المسلحون يأكلون موكبه بأسنانهم، حفاظاً على ما بقي من صورة إيجابية عن مدينته. مع العلم أن بيانات قوى 14 آذار التي تتحدث عن «الاحتكام إلى القضاء وأجهزة الدولة والتعبير الراقي عن الرأي» تجلت في أبهى صورها يوم أوقف شادي المولوي. في ظل حملة تحريض أخرى قالت صراحة إن جهازاً أمنياً (يرأسه شيعي) لا يمكن أن يوقف متهماً (سُنياً) بالانتماء إلى «القاعدة».
هنا قسوة حادثة عرسال. الهاتفون سوريا أولاً وثانياً وثالثاً، المحرضون مذهبياً، الذين يتاجرون والجيش السوري الحر بالسيادة اللبنانية، والذين يستفزهم كل جهاز أمني وقضائي غير خاضع لسلطتهم على غرار فرع المعلومات، ليسوا إلا ثقل 14 آذار الشعبي. فالباصات التي كانت تقل المتظاهرين المتحمسين من صيدا إلى ساحة الشهداء، تقلهم أنفسهم اليوم مع وجوه عابسة، مخرجة من نوافذها الرايات السوداء بدل الأعلام اللبنانية. والشيخ الذي كان يصلي جنب الراهبة قبالة الضريح هو نفسه الشيخ الذي يفتي أموراً بـ«ما لم ينزل الله» اليوم. وفي الساحة التي بات الرجال يتقاسمون إحدى جهتيها والنساء الجهة الأخرى، حل نشيد فضل شاكر «سوف نبقى هنا» محل النشيد الوطني. فإيحاء تيار المستقبل أنه يعبّر عن حالة في مجتمعه وهؤلاء حالة أخرى غير دقيق: نائب تيار المستقبل خالد ضاهر هو صوت قوى 14 آذار وصورتها في عكار، وهو حجر الزاوية في بناء الجيش السوري الحر ومتفرعاته السلفية شمالاً. النائب معين المرعبي هو عضو كتلة المستقبل، وهو أساس التحريض المذهبي على قيادة الجيش شمالاً. الرئيس فؤاد السنيورة هو رئيس كتلة المستقبل وطليعة الرافضين لتعزيز ميزانية الجيش. لا أنصار الشيخ أحمد الأسير ناصريون سابقون تركوا النائب السابق أسامة سعد أخيراً، ولا حالة النائب محمد كبارة منفصلة عن حالة تيار المستقبل في الشمال. أعمدة قوى 14 آذار شمالاً وبقاعاً وجنوباً هم أعمدة السلفية من ضاهر إلى الأسير، مروراً بكبارة ورئيس بلدية عرسال علي محمد الحجيري. أما الأمانة العامة والنواب هادي حبيش وسمير الجسر وعاطف مجدلاني وغيرهم، فمجرد أقنعة لواقع ما عاد يشبههم. ولا تسعى قوى 14 آذار مجتمعة أو بالمفرق إلى فرملة اندفاعها نحو تفجير نفسها. لا بل يذهب تيار المستقبل في حرد زعيمه بسبب طرده ديموقراطياً من سرايا لو دامت لغيره لما وصلت إليه، حد مضاعفة السرعة: بعد انسحاب المستقبل لمصلحة السلفيين مالياً وأمنياً واستشفائياً، ينقلب انتخابياً علانية على خطاب القسَم الجبرانيّ ويذهب في يأسه من إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد إلى حد تصديقه أن ما عجزت دول العالم عن تغييره، ستغيره عرسال.

السابق
إسرائيل مع من في سورية؟
التالي
قد يكون الجيش هو الهدف!