اعتقال تركي الحمد تهديد للاسلام نفسه


"إعلم أن لك مع الأمراء والظَلَمَة ثلاث أحوال: الحالة الأولى، وهي شرُّها، أن تدخل عليهم، والثانية، وهي دونها، أن يدخلوا عليك، والثالثة، وهي الأسلم، أن تعتزلهم فلاتراهم ولايروك".

المفكر والروائي السعودي تركي الحمد لم يفعل شيئاً طيلة مسيرته الفكرية المديدة سوى الالتزام بالنصيحة الثالثة للإمام الغزالي.

فهو "لم يدخل" على الأمراء، ولاقبل أن يدخلوا عليه بإغراءاتهم الدنيوية، وأغرق نفسه في "عزلة إبداعية" منوعة أنتجت حصاداً ثقافياً وفيراً شمل:
الثلاثية الشهيرة "أطياف الأزقة المهجورة، والحركات الثورية المقارنة، ودراسات أيديولوجية في الحالة العربية (1992)، وكتاب الثقافة العربية أمام تحديات التغيير (1993)، ثم كتاب عن الإنسان أتحدث (1995)، والثقافة العربية في عصر العولمة، ثم عاد إلى الكتابة الروائية، مصدرا روايتين هما شرق الوادي ثم جروح الذاكرة، وعملين غير روائيين، هما على التوالي: ويبقى التاريخ مفتوح،ا ومن هنا يبدأ التغيير. أما آخر أعمال الكاتب فهو رواية ريح الجنة الصادرة العام 2004.
هذه الأعمال محضت الفكر والأدب السعوديين مكانة مرموقة في المنطقة، وكان يُفترض بالتالي أن تحظى بالعرفان والتقدير الرسميين، بغض النظر عن تباين وجهات النظر حيالها بين المؤسسة الملكية- الكهنوتية الحاكمة وبين المؤلف.

لكن هذا لم يحدث. العكس هو ماحدث.
فقد تم اعتقال الحمد قبل أيام، ووجهت إليه اتهامات ترقى تقريباً إلى مستوى التكفير، ليس لإصداره كتاباً جديداً لم يعجب هذه المؤسسة، بل لأنه اطلق بعض تغريدات سريعة على تويتر جاء فيها: "خدعونا فقالوا شرع الله، وما هو في النهاية إلا بنات أفكارهم. سيد الخلق جاء بعقيدة الإنسان، فحوّلها البعض إلى عقيدة بغضاء الإنسان”. كل الأديان تدعو إلى الحب.. فمن وجد في قلبه ذرة من كره فهو ليس على شيء.. وإن صام وصلى.. الممارسات والشعائر لا تعني ما يعتمل في القلب“..
ماذا في هذا النص مايستدعي الاعتقال والتحقيق والاستجواب، وصولاً إلى الرمي بالكفر كما فعلت المؤسسة الملكية- الكهنوتية الوهابية، التي تكرر الآن حرفياً ما كان يفعله تحالف القياصرة والبابوات في أوروبا القروسطية: مصادرة كل حرية فكر، واعتبار الحكم المطلق للأسر الحاكمة "حقاً إلهياً". وهكذا، كان الملوك والأمراء يطلقون يد رجال الدين في فرض أقسى أنواع الاضطهاد الفكري والنفسي على الناس، وينالون منهم "شرعية الحكم الإلهي" الذي يعتبر أي اعتراض عليه خروجاً على شرع الله.
حصيلة هذا الزواج غير المقدس بين الملكية والكهنوت معروفة: تدمير الدين نفسه في أوروبا الغربية إلى درجة الانقراض، بعد أن بات الناس في القارة العجوز يعتبرون الاضطهاد والدين وجهين لعملة واحدة. ولم تبدأ الكنائس باستعادة دورها في الشأن العام، إلا بعد أن تخلّت الكنيسة الكاثوليكية في المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينيات عن فكرة الهيمنة الكاملة على أرواح الناس وعقولهم وسلوكياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وتوقفت عن دعم الطغيان السياسي.
كتب خوسيه كازانوفا، في مؤلفه المهم "الأديان العامة في العالم الحديث،: " لعل الاتحاد القيصرو-بابوي بين العرش والمذبح في ظل نظام الحكم المطلق، هو الذي حدد، وأكثر من أي عامل آخر، أفول الدين في أوروبا".
بكلمات أوضح: أدى إدعاء الحلف الملكي- الكهنوتي أنه يدافع عن الدين، من خلال مصادرته لكل الحريات والحقوق، إلى إجهاض هذا الدين نفسه على يد الثورات الشعبية- النخبوية، وإلى إخراجه كلياً من دائرة الشأن العام أولاً ثم حتى من دائرة الفضاءات الخاصة في المجتمعات الأوروبية.
فهل يتكرر هذا الأمر أيضاً الآن في السعودية، وأيضاً في جمهورية الملالي في إيران، حيث تصادر السياسة في كلا البلدين الدين وتضع المشيئة الالهية في خدمة أنظمة زمنية قمعية وقروسطية؟
ربما. ومن يدري؟ قد لايتوقف الأمر عند اعتقال تركي الحمد وغيره من أصحاب العقائد الحرة، بل حتى قد يطال في نهاية المطاف حتى الإمام الغزالي المحافظ لمجرد أنه عنون كتابه بكلمات "إحياء علوم الدين"!

السابق
يزبك: للجلوس على طاولة الحوار من أجل قانون انتخاب جديد
التالي
سورية والعراق: هل أزفّ زمن الدويلات المذهبية؟