نماذج لبنانية فاقعة لـثقافة العيش المشترك

بالنسبة لي، كان الأمر مستغرباً، أن يقترح الزميل قاسم قصير العلاقات بين الطوائف موضوعاً أساسياً في هذاالاصدار من "شؤون جنوبية"، خصوصاً، مع تزايد الانقسام الأهلي وتصاعد خطاب زعماء الطوائف المذهبي، وتزايد المناطق ذات الصفاء الطائفي المذهبي، وتضاؤل المساحات المشتركة بين اللبنانيين وسيرها نحو الاندثار من جهة، وتكاثر حلقات الحوار بين لبنانيين على خلفية دينية لا تؤثر في الواقع فعلياً من جهة أخرى. ومع ذلك وافقنا على نقل ما نراه من دون اللجوء إلى سياسة التكاذب السائدة.

نماذج من العيش الواحد
في صيدا سألت 19 مواطنا عن الخطر الذي يرونه داهماً. أجابوا بجرأة أن خطر الحرب الأهلية التي يعلنها، برأيهم، الآخر "المذهبي الشيعي". وفي إحدى القرى الشيعية يقول لي أحدهم: "لولا أني أعرفك وأعرف أنك خارج الطوائف، لرفضت التحدث إليك، ولما سلّمت عليك بصفتك تنتمي إلى المذهب السني". أحد الأصدقاء المسيحيين من منطقة شرق صيدا يخبرني: "المسيحيون خائفون من المسلمين بشكل عام، إنهم يتحينون الفرصة للرحيل إلى المناطق المسيحية المركزية، حيث يشعرون بالأمان وبالقوة وسط جماعتهم. مسيحي آخر يدقق أكثر قائلاً: "يعتمد الموقف المسيحي على انتماء الشخص، فإذا كان مؤيداً للتيار الوطني الحر، يرى بالتيارات الأصولية السنية الخطر الداهم وإذا كان مؤيداً للقوات البنانية فإن حزب الله هو الخطر".
صديق مسيحي آخر يحلل الوضع من جهته موضحاً: "المسيحيون الذين يعيشون وسط قرى شيعية يشعرون أن حزب الله هو الخطر الأساس، والذين يعيشون بالقرب من مدينة صيدا يرون بالجماعات السنية الخطر القادم عليهم. إلا أن أحداً من كل الطوائف لم يذكر إسرائيل وأطماعها في لبنان.
أحد أصدقائي محام مسيحي يخبرني: "أحدهم من قرية جرنايا – قضاء جزين يعمل في الدكوانة، بنى بيتاً كبيراً في إحدى قرى كسروان، سأله: "لماذا لم تبنِ البيت في جرنايا؟". أجاب:"لماذا أبنيه هناك؟ هل تريد أن أسكت عن حقي اذا تعرضت إلى حادث سير في المنطقة ولا أحرك ساكناً خوفاً من الوضع هناك"؟
مساء الخميس 8 تشرين الثاني 2012 سألني أحدهم: "ماذا يريد الشيخ أحمد الأسير؟ جماعته أزالت يافطات لحزب الله علقها في ذكرى عاشوراء. وكان رد الحزب سريعاً أعاد رفع يافطات أخرى. هل يريد الأسير التحدي؟ نحن له بالمرصاد".
بعد ظهر الأحد 11 تشرين الثاني، كنت أكتب هيكل هذا النص، عندما أعلنت وسائل الإعلام وقوع ثلاثة قتلى وعدد من الجرحى في اشتباك بين مناصرين للأسير ومناصرين لحزب الله في تعمير عين الحلوة على خلفية رفع يافطات. مساء الأحد زرت صاحب أحد المحال وهو من مناصري الأسير لنقاش ما حصل، دخل علينا أحد رجال الدين، سأل صاحب المحل عن وضع الجامع قرب منزل الأخير، وهل الشباب مستعدون لكل شيء؟ تدخلت بالحديث مستغرباً موقفه، قائلاً: "كيف تقول ذلك وأنت رجل دين مهمتك أن تهدئ الوضع، لا أن تثيره، أن تدعو إلى التفاهم وليس إلى صب الزيت على النار"؟ أجابني: "لكن الطرف الآخر لا يريد التفاهم وعلينا الاستعداد لكل شيء".
صديقة من قرية البستان الحدودية، حاولت استئجار منزل في الطريق الجديدة لأخواتها اللواتي يدرسن في إحدى الجامعات في بيروت. لم تجد شقة على الرغم من اتصالها بعدد من السماسرة. كانوا يسألونها عن مكان قريتها، وعندما تجيبهم أنها عند الحدود يكون الجواب سلبياً. أخيراً أخبرتهم أن البستان قرية ينتمي أهلها إلى الطائفة السنية، وخلال ساعتين استأجرت شقة لأخواتها.
وفي قرى قضاء جزين، تمنع البلديات بيع الأراضي لغير المسيحيين حتى لو كان الشاري. هذه نماذج عن العلاقات بين الطوائف التي تسكن هذه البقعة الجغرافية المسماة لبنان.

لماذا؟
إننا مجموعة من البشر، لكننا لا نشعر أننا جماعة سياسية موحدة لأننا لا نملك رؤية موحدة لماضينا. إننا مجموعات جمعت في بقعة جغرافية واحدة، لكنها لم توحد صفوفها ولم توجد المساحات المشتركة الضرورية لوجود شعب، يعني أننا لسنا شعباً واحداً. كل مجموعة تملك تصوراً لتاريخها يغضب المجموعات الأخرى ويزيد من حالة التنافر بينها. لذلك كل تسوية تصل إليها المجموعات لا تستمر، إذ لم نصل إلى درجة من التضامن الاجتماعي تجعلنا جماعة سياسية منسجمة، وهذا ما يفسر عدم وجود كتاب لتاريخ لبنان حتى الآن، لأننا نجهل أنفسنا ونجهل علاقتنا بالمحيط. خلاف ذلك؛ سنبقى قبائل وعشائر بدائية نطلق على أنفسنا اسم عائلات روحية من دون أن يكون لنا علاقة بروحانيات الديانات. كل منا على حذر من الآخر، نسعى للخارج للإستقواء به على الآخر في نزاعنا المستمر منذ تأسيس الكيان عام 1920.
الحرب الأهلية المندلعة منذ 1975 مزقت البلد وحولت قسماً منه إلى خراب، وهجّرت جماعات وغيرت اقامة آخرين، لكنها أظهرت أنه لا يمكن إلغاء الوجود المسيحي، ولا يمكن نفي المسلم الآخر. وعلى الرغم من إمساك زعماء الطوائف السياسيين "بالكيانات الطائفية الواقعية" التي تحولت إلى إمارات لهم، لكنهم مضطرون للإعلان بين الحين والآخر وقوفهم إلى جانب استمرار هذا الكيان ووحدة أراضيه. وإذا كان الخلط بين العروبة والإسلام عند المسلمين سائداً، فإن هذا الخلط دفع المسيحيين وخصوصاً الموارنة، وهم من قبائل عربية للابتعاد عن هذا الأصل ومحاولة خلق تاريخ آخر خاص بالكيان.
وفي الوجود التاريخي للبنان، ننظر إلى الموارنة والدروز وهما طائفتان من أصول عربية ابتعدوا عن الطوائف الإسلامية والمسيحية الأخرى لبناء تاريخ خاص لهما، وكانت قوتهما مستمدة من الطبيعة العشائرية لكل منهما، وتستمدان قوة إضافية من البعد الديني. والطوائف التي ضُمت إلى الكيان بعد 1920 بقيت على خلاف فيما بينها حول موضوعات جوهرها سياسي.
وإذا كان المسيحيون هم أول من تطور واطلع على منجزات العالم الحديث، فإن الشيعة هم آخر من لحق بركب التطور، وإن هذا التفاوت بين تطور المجموعات الطائفية تسبب في ظهور توترات اجتماعية واقتصادية بين الطوائف، تصاعدت لتصل إلى مستوى السياسة وانتهى أمرها إلى العنف، لتكون علاقات نزاع عنفي بين جيران يسكنون بناية واحدة سميت لبنان.
  

السابق
طالبو اللجوء الإيرانيون في ازدياد كبير قمع النظام والضغوطات الشديدة
التالي
الجراح لم يستبعد استعمال حزب الله لسلاحه في الداخل