خامنئي بين نبوءة مترنيخ ومصير نابليون

علي خامنئي

إيران بدأت تدفع أثمان تمددها الاستراتيجي الزائد في الشرق الأوسط، كما أن نفوذها الإقليمي إلى انحسار، فماذا ستُقرر: البحث عن تسوية باردة أم المخاطرة بمجابهات ساخنة؟

– I –

أقل ما يُقال عن الوضع الاستراتيجي الإيراني الراهن في الشرق الأوسط، أنه في حالة تراجع شاملة.

نابليون: خطيئة التمدد الاستراتجي الزائد
وأقل ما يمكن استنتاجه من هذا المعطى، هو أن القيادة الإيرانية تقترب من لحظة حقيقة تكون فيها أحلى الخيارات أمرُّها: إما التراجع إلى الخلف بحثاً عن تسوية سريعة ما مع الإدارة الأميركية، كما حاولت أن تفعل غداة الغزو الأميركي للعراق العام 2003، أو الهجوم إلى أمام من خلال تسخين جبهة عسكرية ما.

إيران الآن في الموقع الذي وجد فيه نابليون نفسه في القرن التاسع عشر، حين دفعه الهجوم الأوروبي المشترك ضده إلى التراجع إلى داخل حدوده. وهذا ماخطط له المستشار النمساوي العبقري ميترنيخ حين أطلق شعاره الشهير:” أعيدوا الذئب النابليوني إلى قفصه (أي بلده فرنسا) فيختنق بأنفاسه ويفترس نفسه”.

فإيران خسرت حركة حماس،أهم حليف سنّي لها في المنطقة، الأمر الذي فاقم من انكشافها المذهبي في العالم الإسلامي. وقبل حماس، كانت بلاد الخميني تخسر احتكارها لمبدأ المقاومة والممانعة ضد إسرائيل، حين خرجت تركيا فجأة من سباتها الشتوي التاريخي الطويل في الشرق الأوسط (نحو قرن كامل) واستعادت بسرعة نفوذها العثماني التاريخي في فلسطين وبقية المنطقة العربية، في إطار حلّة العثمانية الجديدة.

ثم جاء إعصار الربيع العربي ليعيد مصر (وإن بخفر حتى الآن) إلى واجهة العمل العربي، عبر اندفاع الرئيس مرسي إلى طرح مصر مجدداً على رادارات الشرق أوسطية.

يد أن الضربة الكبرى لطهران جاءت من الانتفاضة السورية التي زعزعت أكثر من أي عامل آخر ركائز الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، ومسحت بين ليلة وضحاها معظم الشعبية الكاسحة التي حققتها (هي وحليفها حزب الله) طيلة العقدين الأخيرين في أوساط الشعوب العربية بوصفها رأس حربة معركة التصدي لإسرائيل.

– II –

كل هذه المعطيات، مضافاً إليها الهجوم الاقتصادي والتجاري الكاسح الذي شنّه الغرب الأميركي والأوروبي عليها في الآونة الأخيرة، والذي وجَّه ضربات موجعة إلى كلٍ من المصرف المركزي والجهاز البنكي الإيرانيين، وإلى القطاع النفطي، دفع الجمهورية الإسلامية إلى مضائق خطرة في الخارج الشرق أوسطي والداخل الإيراني.
فماذا في وسع طهران أن تفعل؟ ماذا ستختار: التراجع نحو التسوية، أو التقدم نحو المجابهة والحرب؟
مسألة التسوية ورادة بالطبع، وبقوة أيضا. فالنظام الإيراني أثبت مرات عدة غداة انتصار ثورته الإسلامية العام 1979 أنه براغماتي حتى العظم، ويتمتع بميزتي الخبث الفارسي الشهير والباطنية الشيعية. وهذا ما سمح له بإبرام سلسلة من الصفقات مع الولايات المتحدة، من إيران غيت إلى الحرب المشتركة ضد طالبان في أفغانستان، مروراً بموافقة طهران الضمنية على الغزو الأميركي للعراق.
لكن التسوية هي رقصة تانغو ثنائية تتطلب وجود راقصين. وحتى الآن، لايبدو أن إدارة أوباما (ولا بالتأكيد إدارة رومني في حال فوزها بالانتخابات) في وارد إبرام صفقات قد تنقذ خصماً يغرق كل يوم في رمال متحركة تزداد عمقاً وخطورة باطراد. لابل العكس هو الصحيح: إذ من الواضح أن ثمة قراراً غربياً على أعلى المستويات بممارسة عملية الخنق الاقتصادي حتى الثمالة.
وهذا ماقد يترك النظام الإيراني أمام خيار التصعيد والمجابهة، إلا بالطبع إذا ما كانت البراغماتية الإيرانية والخبث الفارسي على استعداد لتقديم تنازلات كبرى لواشنطن في مجالي النفوذ الإقليمي والنووي، كما فعلت طهران بعد غزو العراق حين عرضت على الولايات المتحدة وجبة تنازلات ضخمة تضمنت، من ضمن ماتضمنت، نزع سلاح حزب الله اللبناني ووقف دعم حماس.. ألخ.
لكن، إذا ماوقعت قرعة إيران على مواصلة وتصعيد المجابهة، إنقاذاً لوضعيها الداخلي والاستراتيجي المتدهور، أين سيكون محط تركيزها؟
ليس على الأرجح منطقة الخليج، لأن هذا سيكون انتحاراً محققا. إذ أن أي مجابهة هناك مع الولايات المتحدة سيُعيد إيران إلى العصر الحجري. وهذا بالطبع ما يدركه النظام الإيراني جيدا. ولذا، قد لايبقى أمامه سوى الانغماس أكثر في الحرب السورية، وربما تمديد الصراع إلى لبنان عبر فتح جبهة الجنوب مع إسرائيل، ومواصلة محاولة زج العراق في المعركة المذهبية المستعرة الآن في كل الشرق الأوسط وعرضه.
بيد أن كلاً من هذه الخيارات يحمل مخاطر جمّة.
فدفع العراق إلى الانغماس في الحرب السورية، كما يتبدى الآن من تزويد بغداد لدمشق بالوقود على رغم الحظر الغربي عليها، وصفقة الأسلحة الضخمة مع موسكو التي تتضمن هي الأخرى بصمات إيرانية وسورية محتملة، قد تساهم في نهاية المطاف في تفجير الوضع الطائفي العراقي مجدداً بأسواً مما حدث العام 2007؛ ناهيك عن أنه سيستنفر واشنطن ضد حكومة المالكي. وحينها ستكون ثمة خسارة إيرانية صافية.
وبالمثل، دفع حزب الله إلى فتح جبهة الجنوب سيسفر عن تدمير هذا الحزب (ومعه لبنان)، وقد يدفع إسرائيل أيضاً إلى إعادة النظر بدعمها الراهن للنظام السوري.

مترنيخ: إعادة الذئب إلى القفص
أما الانغماس أكثر في لجج الحرب السورية، وعلى رغم أن طهران اتخذت على مايبدو قراراً نهائياً في هذا الصدد، فإنه قد يثبت عما قريب أنه أشبه بدخول ثقب أسود فضائي سيتبلع ماتبقى من قدرات إيران المالية والاقتصادية، من دون أن يكون قادراً على إبقاء النظام السوري على قيد الحياة في غرفة العناية الفائقة الإيرانية باهظة التكاليف.

– III –

والحصيلة؟
إنها واضحة: إيران بدأت الآن تدفع ثمن كلٍ من التمدد الاستراتيجي الزائد في الشرق الأوسط، ومن القرار التاريخي المخطىء الذي اتخذه الأمام خامنئي بالانغماس في سباق على التسلح والنفوذ الإقليمي مع غرب تفوق قدراته بشكل فلكي مواردها وامكانتها.
وهذا سيؤدي إلى انطباق نبوءة مترنيخ عن نابليون على أية الله خامئني. فالذئب سيعود بالفعل إلى قفصه، وربما في وقت أقرب مما يتوقع الكثيرون، ليختنق بأنفاسه الداخلية.
حروب أوروبا في القرن التاسع عشر تعيد نفسها في شرق أوسط القرن الحادي والعشرين.

السابق
يديعوت: نتانياهو وافق على الانسـحاب من الجولان بمفاوضات جرت قبل سنتين
التالي
النهار: الحريري ردّ على نصرالله: لبنان ليس طائرة من دون طيار