عرس قروي.. على جناح الذاكرة

حدثتني أمي عن جدتي عن جدتها عن "عرس الضيعة" القديم قالت لي: أن العرس كان مفخرة التراث، وله بريقه وعاداته وتقاليده، كان للحب معنى خاصاً، كان حباً حقيقياً...

حدثتني أمي عن جدتي عن جدتها عن “عرس الضيعة” القديم قالت لي: أن العرس كان مفخرة التراث، وله بريقه وعاداته وتقاليده، كان للحب معنى خاصاً، كان حباً حقيقياً… أما اليوم أمام خطوة واحدة من التقليد والحديث تقف أم يوسف التي تحضر عرس ولدها ولكن بحداثة العصر، فتعصر ذهنها بتقليد الزمن، وتذهب في إقلاع عكسي الى “الضيعة” وحب ابو يوسف وكيف كان عرسهما…وتعود بنا الى عرس اليوم الذي يعتمد “الإتيكت” ويقتصر على العائلة.

«قرية بينو»

رحلة ذكريات
رحلة الذكريات تعيشها أم يوسف المنهمكة في تحضير عرس إبنها الذي تعرَّف على خطيبته على الانترنت، يمضي ساعات في محادثتها داخل غرفة ضيقه، تحضيرات لا تستغرق سوى ساعات “الصالة تتكفل في تحضير الزفة والطاولات وتوزيع الحلوى” تقول، وسرعان ما تقلع رحلة ذكرياتها في غرفة ذاكرتها التي أقفلت عليها من زمن، والتي لا تفتحها الا اذ إلتقت بجيلها،”وقت حصاد القمح على البيدر، كنت أجرش القمح برفقة الصبايا،هناك تعرفت على أبو يوسف،وبدأت تجمعنا النظرات، كان إذا يريد أن يضرب لي موعدا يبدأ بمغازلة القمحات، على طريقة “التوربة” أي عم إحكيكي يا جارة حتى تسمعي يا كنة”، تضحك وهي تسرد قصة عشقها ومقابلاتها معه “كنا نتلاقي في الحصاد، وفي زيارة مقام النبي سجد، وفي أيام شك الدخان، كان للحب معنى”،”ليس كحب هذه الأيام الذي لا يدوم وسرعان ما يموت”.
لا تخفي فرحتها وهي تحملنا الى أيامها الماضية “كان العريس يجب أن يثبت رجوليته عبر رفعه “العمدة”، أي “المحدلة”، إذا فشل برفعها يخسر الزواج، كنت أعرف أبو يوسف قبضاي”، أه عميقة تطلقها “اليوم ضاعت تقاليد بعصرنة الإنترنت”، تغوص مجددا في ذكرياتها “جاء وجهاء البلدة المختار والشيخ وأهل أبو يوسف لطلب يدي، كل صبايا البلدة حضرت الى منزلي يردن مشاركتي فرحتي، وكان أخي الصغير مرسالنا لمعرفة تفاصيل جلسة الرجال، وما إن نطق كبير الوجهاء “حابين نتقرب ونطلب بنتكن لإبننا” علت زغاريد النسوة”.
يقول الكاتب والممثل حسين داوود شكرون إن “أعراس زمان لها قيمة ومكانة لا تزال حاضرة في نفوس الكثيرين، يجري اليوم تقليدها وإن بضآلة”، لافتا الى ” أنه ما إن يجري طلب يد الفتاة حتى تبدأ تحضيرات أم العروس وأهل العريس لتجهيز العروسين”.

صندوق العروس
تلمع عيني أم يوسف وهي تحكي لنا قصة تحضيرات عرسها، وإنهماك والدتها في تحضير جهازها”فرشة صوف، ومخدة الرويشة ولحاف القطن،هو الجهاز الذي وضعته والدتي في صندوق العروس وأرسلته الى بيت أبو يوسف، الذي كان منشغلا في إضافة غرفة طين على دار العائلة، فهذا يقصِّب الحجر، وذاك يعد “اللِّبِن” وهو عبارة عن تراب طيني يعجن مع التبن، ورفاق العريس يتعاونون على رصْ الخشب على سقف الغرفة”، هنا تتنهد تنهيدة عميقة “إيه كان الاهل كلن إيد وحدي”، تصمت ثم تردد عبارة قالها أبو يوسف “شوفي يا مرا البيت عندي غرفة صغيرة فيها كل شيئ فيها الكبكبة، دونسوار، وفي كمان كوارة وبجوارنا البقرات والبغل والدجاجات منحطن بالقن برا، والأكل في صحن الدار مع أهلي”،تستيقظ من الذاكرة قائلة:”بنات اليوم بيرضو بهيك بيت!!،بيرضو ينزلو على الأرض!! بيرضو يرعوا البقرات!!، طبعا لا، بنت اليوم بدها شقة دولكس وعفش على الثقيل، وبدها سيارة ما بترضى تركب على الحمارة، وبدها تزين حالها “بالميكياج” نحنا كنا نحط كحلة السواد العربي، ونلبس التنورة الملونة وتحتها الشروال وقميص فوقها”.
هنا يشير شكرون الى أنه “ما إن ينتهي العمل من غرفة العرس وتنجز أم العروس جهاز البنت، ينطلق التحضير ليوم العرس الذي يستمر إسبوعا كاملا، وتنهمك صبايا وشباب البلدة في توزيع دعوات العزيمة الشفوية، يجولون على كل بيوت البلدة، ويلفت الى أن في السهرية “كان يوزع منديل يوضع داخله ملبس اللوز والشوكولا ويربط بخيط ملون”، عكس تحضيرات اليوم “إذ إن كل شيء يكون شبه جاهز، فالتطور لحق حتى بالأعراس التي فقدت كل معناها، يتم الاستعانة بفرقة زفة بعد أن كانت الصبايا والشباب يزفون العرسان.
 
العريس على الحصان
تحملنا أم يوسف مجددا الى عرسها تصور لنا أحداثه “أعلنت منى أن كل شيئ أصبح جاهزا للعرس، السهرية، جهاز العروس، منزل العريس، وصرخ علي “حان وقت العرس على العين يا شباب بدنا نعد المرتبة للعرسان، محمد أتى بأشجار الدفلى الملونة وضعها فوق المرتبة، رفاق أبو يوسف بزيهم العربي “البنطال بو نفاخات والساقية”،كلهم ذهبوا الى داره لكي يحلقوا له، فيما إنشغلت الصبايا اللواتي لبسن ثياباً “مبقجة ملونة” بمساعدتي على لبس فستاني الأبيض والحنة”، فيما كانت أعناق النسوة مشرنقة على النوافذ بإنتظار قدوم العريس، علت فجأة الزغاريد “وصل العريس على الحصان، أتى أبو يوسف الى دار أبي ومعه الهودج، كان فريق “المحوربين” يتقدم الموكب وهو يردف “عاريسنا زين الشباب” ومعهم لاعبي السيف والترس”، وما إن وصل حتى علت الزغاريد وعزفت الدموع فرح اللحظات السعيدة التي خرجتُ بها من الدار، ركبتُ الهودج بقرب أبو يوسف وسارت بنا فرقة السيف والترس على عين الضيعة”.

عرس الضيعة
هونيك إيه بذكر هاللحظات كل الضيعة حضرت العرس، عُقدت حلقات الدبكة “فرخة وديك”، وكان المجوز والناي والطبلة يرندحان في الساحة، وتوالى رقص السيف والترس”، وتشرد سميحة في مساحة ذاكرتها “بلشنا بمباراة الدلعونة والميجانا وعلت أصوات “الحمبلة “فكانت سامية تردف مجيانا يرد عليها فارس بالعتابا “ليلة مبارح يا ريتا دامت..عيني لوج الصبح ما نامت..ولمن الحلوي مع جنبي كانت لا نمت ولا كان يجيني نوما..”وتقّول سامية مجددا ويرد يوسف “يا شجرة بالدار حاميك أسد..وتكسر الأغصان من كتر الحسد..نحنا اللي زرعنا ويا نيالوا اللي حصد يا دلينا بعد التعب شو نابنا..”إيه تقاطع أم يوسف الكلام “كانت “السهرية” عم تتوزع على المعازيم والأطفال عم يلموها وكانت ريما تحمل صينية قش مزينة بقماش أبيض وتجول لجمع “النقطة”..”منعادة يا شباب ويا صبايا أعلنت إنتهاء الليلة الأولى من العرس، لينطلق بعدها العروسان الى دار العريس “كانت حماتي تحمل الطبلية والعجينة طبعتها أنا على باب الدار للحظ والسعادة، دخلنا الى الدار وفي اليوم الثاني إشتعلت الهيصة والزغاريد وأستمرت لمدة إسبوع” ..إنتفت كل هذه العادات لم يبقى منها سوى ذكرى في ذاكرة الكبار، أما جيل اليوم فهو يحاول أن يقلد تلك الأعراس في المهرجانات، وفي عرسه يستقدم فرقة الزفة كتقليد تراثي”

فرح شكلي
تعود بنا الحاجّة وفيقة الى عرس أبنها، لتحط ذكرياتها في مطار الصالة التي تملأها الطاولات المزركشة، وأصوات الموسيقى الصاخبة، فيما الفتيات يجلسن على الكراسي لا يحركن ساكناً، وعدد محدود يشارك في الدبكة، “زفة عرس” تزف العروسان الذين آتيا الى الصالة بسيارة فخمة ” تسكت أم يوسف وتسرح بتفكيرها بعيداً، لتعود بكلمة “رح يجي يوم ويتحسرو على إيامنا، كنا نحب بعض ونساعد بعض ونفرح ونحزن مع بعض بس اليوم شو في …وجاهات”
يعلق شكرون “أن عرس اليوم أضحى عبارة عن حالة فرح تفقد معناها الحقيقي، مقارنة مع أفراح وأعراس إيام زمان، إذ يكون ضمن رقعة جغرافية صغيرة إنما سابقاً كانت المساحة النفسية والفكرية يتجاوز حدود الأسرة الضيقة، وكانت الضيعة أشبه بمنزل واحد عكس هذه الأيام…”
غابت أعراس إيام زمان وحضرت أعراس العصر المحصورة فقط بالعائلات هل ستعود تلك الاعراس يوما أم سيتغلب عرس الصالات على عرس العين؟..

السابق
هذه الصفات التي يبحث عنها أصحاب العمل
التالي
ستيوارت تعتذر عن خيانتها لصديقها