الجنوبيون في فصل الصيف أين يذهبون؟

تعلو صرخات الأطفال، يغطسون في بعض من مياه جارية، نظيفة أو شبه نظيفة، تغمرهم فرحة عارمة، فالذهاب إلى النهر عندهم مشوار من العمر، قد يتكرر أسبوعيا في فصل الصيف. يجتمع الأحبة والأصدقاء، يجهزون حاجياتهم، ويشدّون الرحال، الخيارات أمامهم محدودة، إما البحر وإما النهر، أو بعض مساحات خضراء في أحراج العيشية وتبنين.

بدء الصيف
هكذا يبدأ فصل الصيف، إنتهت المدارس، الأولاد يتصارعون مع الوقت ينتظرون رحلة تشفي غليل فراغهم، والأمهات يبحثن عن ملاذ يخفف وطأة الحرّ في المنازل، الأباء يعوضون غيابهم، فتكون هذه الرحلات، التي تضيق دائرتها، كلما فكروا في الخيارات المتاحة، لكنهم يبحثون عن الفرح، وإن لم يوجد خلقوه.
تجهّز أم علي طبخة المجدرة الحمرا، وتقطف الخضار من حديقة منزلها، بصل أخضر، فرفحين، بندورة ومقتا، تذيّل أطراف عباءتها، تقطف بعض حبات المشمش عن الشجرة، تضع الشاي وعدة النرجيلة، تجمعهم في صندوق بلاستيكي. أبو علي إشترى بطيخة، ولوز يابس، الأولاد جهزوا أنفسهم، ألعابهم، ولم ينسوا الطابة. أبو علي والأولاد في السيارة، إم علي علقت في المنزل، يرتفع صوت " زمور" السيارة، يصرخ أبو علي: " تأخرنا اليوم السبت وين بدنا نلاقي محل فاضي بعد"، تخف خطوات إم علي، تجلس والفرح يعلو محيّاها، ينطلقون على نغمات علي الديك، وإغنية الحصيدة، يصلون إلى إستراحة الجسر في القعقعية، يدفعون أجار الطاولة، ويقضون نهارا ممتعا بأقل كلفة ممكنة.

مشهد واحد
لا يتغير المشهد بين إستراحة "الجسر" أو "حلو الرواق" أو "جزيرة القمر" كلها إستراحات شعبية، يقصدها أبناء منطقة النبطية ، باحثين عن قليل من الرفاهية، ينسقون مواعيدهم الأسبوعية مع العائلة الممتدة من عموم وخالات وأقارب أو أصدقاء، يتفقون على يوم في منتصف الأسبوع، "جمعة سبت أحد، كثير عجقة"، تقول سناء، مؤكدة أن المشوار الأسهل والأيسر هو الذهاب إلى النهر.
يمر نهر الليطاني بالعديد من القرى و البلدات الجنوبية، التي تستغل مروره ببعض الإستراحات على ضفافه، فبدءا من الخردلي ويحمر الشقيف والزوطرين وصولا إلى القاسمية، تتنتشر الإستراحات كما الناس، تتمدد بصورة شاملة بعيدة عن هموم الحياة ومتطلباتها القاسية، تخيم النكات على أجواء الجلسات، وينتهز العشاق زوايا النهر أو ظلال الأشجار ليتركوا أسماءهم محفورة كما الذكريات، تنهمك الامهات بإعداد الطعام والفواكه، فالأكل والضيافة من صلب عاداتنا.

مشاريع بأفكار جديدة
مشاريع عديدة حملت أفكارا جديدة، نوادٍ مختصة بالرافتينغ، مزارع تربي سمك الترويت، مطاعم و مقاهي، تنوع المشهد كثيرا، ولم يعد النهر هو الحل الوحيد أمام الجنوبيين، منهم من يقصد البحر أيضا، مدينة صور هي الأقرب، العائلات تذهب إلى "الصليب"، حيث تمتد أمامك قافلة من الخيم، مرقمة ومسماة، تختلف بين من يبيع الكحول وبين من يمنع دخولها، وتختلف في طبيعة الناس وهويتها الدينية والإجتماعية، الملفت في بحر صور التنوع الكبير، بين عباءة و ثياب بحر، يجمعهم الشاطئ الكبير، الذي يتطلب الوصول إليه من أهالي منطقة النبطية جهداً ووقتاً، في حين أن الطريق الداخلية من الزرارية التي يسلكونها أصبحت، بالإضافة إلى منحدراتها الخطرة، تشهد زحمة سير خانقة أيام العطل، قرب إستراحات القاسمية، وبالتالي أصبح الوقت يطول مروراً بطريق الزهراني – أتوستراد صور.
رحلة البحر تعتبر مكلفة إلى حدّ ما عند البعض، أبو أحمد يأخذ العائلة إلى شاطئ القاسمية، " نأخذ العدة كاملة ، شمسية وبساط وكل غراض الطبخ، المهم ما ندفع مصرياتنا عالفاضي بالإستراحات"، إحسان تذهب إلى شاطئ صور، مقابل "التيروس"، حيث خصصت البلدية مساحة فارغة للعائلات، تصبح مزدحمة بشكل كبير، أيام العطل والحضور باكرا هو الأفضل، لحجز مكان مريح. بحر صيدا هو ملجأ أهالي المدينة، في وقت تركت البلدية مساحة قليلة للمسبح الشعبي، وإستثمرت كل المساحات المتبقية على الرصيف، بمشهد خيم متلاصقة ومتراصة لا تبعد الواحدة عن الأخرى سنتيمترا واحدا، ولا يتسع لشخص أراد أن يشبع عينيه من البحر بالوقوف.

الأحراج… والمونديال
الأحراج تشكل أيضا ملاذاً لأبناء المنطقة، منهم من يذهب إلى حرج تبنين، أو العيشية الريحان، المهم ظلّ شجرة يقيهم حرّ الصيف، وخصوصا بعد تقنين ساعات تغذية الكهرباء إلى أربع ساعات يومياً، يصبح الهرب إلى الطبيعة الحل الأمثل، بعد أن تعوَّد المواطن اللبناني تدّبر أمره، "منقل الشواء" والنرجيلة، مطلبان أساسيان، لا يمكن لرحلة أن تتم بدونهما، والأولاد يلعبون الطابة، أو يجمعون حبات الصنوبر اليابسة، يلعبون بأي شيء، تعودوا أن يختلقوا أفكارا جديدة، تشعرهم بالفرح، الألعاب الإلكترونية لم تسطع أسرهم، حريتهم لا زالت في الركض ولعبة "الليقطة".
هذا العام يأتي المونديال ليضيف بعضا من الحياة إلى القرى، فيجتمع الشباب كما الصبايا في ساحة البلدة. ففي يحمر الشقيف وضع أبو حسن شاشة عملاقة وإستثمر المناسبة بكافيتريا متواضعة، يستفيد منها، بعد دوام عمل طويل في البناء. الشاشة تتكرر أيضاً في المقاهي أو الملاعب الرياضية المغلقة، المهم هو إهتمام الناس بكأس أوروبا وتعلقهم به، الأعلام ترفرف على شرفات المنازل والملصقات التشجيعية موجودة في كل مكان.
حيرة الناس في فصل الصيف تزداد، أماكن الرفاهية محدودة جدا، المطاعم والمقاهي مرتفعة الأسعار، ولا تؤمن لهم راحة يبحثون عنها، السينما أو المسارح، خارج نطاق المنطقة، الحدائق العامة مصطلح غير موجود في قاموس ابن الجنوب، والفرق الكشفية الحزبية هي من يعنى بنشاطات الأطفال،ولو بألف ليرة بالأسبوع، فلا نوادٍ تهتم بهم، سوى القليل الموجود منها. 

السابق
.. في المعادلة المستحيلة
التالي
احترس من هذه العادات الرمضانية فهي تضر بالصحة !!