الدرع الواقي للعسكر

يعتقد أصحاب الإسلام السياسي أن الثورة العربية أحدثت فراغاً سياسياً يمكن أن يسدّوه بسلطة دينية. يخالف هذا الاعتقاد التاريخ الإسلامي كما يتعارض مع متطلبات العصر التي تتعلق بالديموقراطية والتحرر.
لم تجمع الخلافة الإسلامية السلطة الدينية والسلطة السياسية في مؤسسة واحدة، منذ بدايتها. عندما كانت الخلافة سلطة سياسية، في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين الأوائل، لم تكن في الآن نفسه سلطة دينية. حاول ذلك المأمون وما أفلح، وذلك عندما أخضع العلماء لامتحان ديني. قبل ذلك كان الإمام مالك بن أنس قد رفض طلباً من الخليفة لتعميم كتابه «الموطأ» للعمل بموجبه في مختلف المناطق الإسلامية، معتبراً أن اختلاف الأقطار يحتم اختلاف الآراء والاجتهادات. وعندما فقدت الخلافة الإسلامية سلطتها السياسية منذ القرن الرابع الهجري حاولت أن تصير سلطة دينية محضة، وما نجحت في ذلك؛ بل استمرت كسلطة رمزية مع تعدد المذاهب والاجتهادات حتى آخر أيام المماليك؛ إلى أن ألغاها العثمانيون عندما سيطروا على مصر. وما اتخذ السلاطين العثمانيون لقب الخليفة إلا بموجب معاهدة كوجك – كينارجي العام 1774 التي عقدت إثر هزيمتهم في مواجهة الروس، الخلافة التي ألغاها أتاتورك العام 1924، هي هذه التي فرضها الغرب. منذ ألف عام والفقهاء المسلمون ينظّرون للدولة السلطانية، كما فعل الماوردي في بداية القرن الحادي عشر الميلادي، مفتتحاً كتابه «الآداب السلطانية» بتعبير «الإمامة موضوعة لحراسة الدين وسياسة الدنيا». هي إمامة تحرس الدين ولا تشكل السلطة الدينية. هناك في نظره سلطة واحدة يمارسها السلطان (المدني).

أما متطلبات العصر الراهن الديموقراطية فهي تقضي بسلطة الشعب، من دون الإقرار بأية سلطة أخرى. السلطة الدينية هي ما يمارسه الأفراد في شؤونهم الدينية وفي معتقداتهم الإيمانية. هي سلطة على النفس لا على الآخرين. أما السلطة السياسية فهي شأن الدولة، وما يقرّره الناس. وقد تتعارض إرادة الناس مع ما يعتبره أصحاب الإسلام السياسي إرادة إلهية. القرار للناس حتى ولو حاول أصحاب الإسلام السياسي مصادرته.
يحاول أصحاب الإسلام السياسي مصادرة السياسة عن طريق الديموقراطية بواسطة صناديق الاقتراع. لكن الديموقراطية ليست صندوق اقتراع وحسب. هي أيضاً وفوق كل شيء إجراء من أجل التحرر.
لا يكون التحرر حقيقياً إلا بإسقاط كل سلطة سواء أكانت سياسية أم دينية أم عسكرية؛ وحتى سلطة المجتمع على الفرد. التحرر لا يكون إلا فردياً. يوزع أصحاب الإسلام السياسي العمل فيما بينهم؛ فريق منهم يحاول الاستيلاء على الدولة كما في مصر، تحت راية الأخوان المسلمين؛ وفريق آخر يحاول الاستيلاء على المجتمع كما في تونس تحت راية السلفيين.

حدثت الثورة العربية من أجل التحرر، تحرر الفرد من كل سلطة، لا من أجل إعادة إنتاج السلطة القديمة باسم ديني مكان الاسم العسكري. ما زالت الثورة صراعاً متأججاً، ما زالت الثورة تطرح أسئلة كبرى وإشكاليات معقدة يعجز ذهن الإخوان المسلمين والسلفيين عن الإجابة عليها بأفكار مبسطة.
يحاول الإخوان المسلمون نقل تجربة السياسة إلى الدين. هم يقلدون العسكر في نقلهم تجربتهم العسكرية إلى السياسة. الأرجح أن مصير هؤلاء وأولئك واحد. ينتقل الوطن العربي من مرحلة إلى أخرى، لا من استبداد إلى آخر، وإن اختلفت التسميات.
لم تخلق الثورة فراغاً. هناك وجود إمبريالي مكثف ومتجسّد في الاستبداد  العسكري. وهذا ما لا يريد الإسلام السياسي الاعتراف به.
وما لا يريدون الاعتراف به هو أن الثورة حدثت ضد العسكر، وحكم العسكر واستبداد العسكر، وتحالف الإمبريالية والعسكر، فإذا بالإسلام السياسي يجعل نفسه درعاً واقياً للعسكر.
 

السابق
حنين… إلى الكرز!
التالي
هل أنتِ مرتبطة بالشّخص الخطأ؟