السياحة في الجنوب كتاب مفتوح على رحابة الزمن

يفتح الجنوب اللبناني اليوم أبواب سياحته المتجددة، يلبس حلتها الفضفاضة يقدمها على طبق من قلاعٍ وحصونْ، ينكهها بعبق التراث المتمثل بمتاحف "ضيعوية" تقدم حبكات تراثية على ذوق الحضارة الشبابية الحديثة، وفيما تتغنج الحِرَف بحضورها الخجول، وحده سؤال من يعرف تلك القلاع والحصون والحرف يخترق "معمعمة" هذا الفضاء السياحي الذي تحاول "شؤون جنوبية تسليط الضوء عليه.
الولوج الى الجنوب يبدأ من بوابة صيدا فبعد أن تكون قد "متّعت" نظرك بقلعتها البحرية "الصلبيبة" الشامخة بهندستها "المفذلكة" تنزلق ناحية السوق العتيق المتعرج، المنقسم على أكثر من طريق تحملك كل منها إلى حرفة المنجد، الإسكافي، اللحّام، الكندرجي، الخياط،تارة، وإلى خان الإفرنج تارة أخرى، فيما هناك أزقة تطل بك على قلعة صيدا القديمة، وأخرى على السراي القديمة تلك التي أخذت إسمها من الامير فخر الدين فجأة تستوقفك موسيقى النجّار المنبعثة من حنايا سوق النجارين القديم الطراز، موسيقى تبعثك على التأمل في لا حدودية المكان "المحنك".

في مدينة صور
لتتجه ناحية صور التي تفلش أوراقها السياحية برحابة وآناقة فريدة تتلمسها في صُوَرها المحفورة في "ذاكرة صُور" محمد عبد الباسط الترجمان تتعرف في مقام صُوَره على تاريخ صُور وحضارتها يحفظها الترجمان إبن الثمانين عاما في إستديو يقع على تخوم حارتي المسلمين والمسيحيين على مقربة من الكورنيش الغربي للمدينة، يعبق بمرحلة من الزمن يعود تاريخها إلى أكثر من ستين عاماً ونيف، أنتجت ملاين الصور الذي إلتقطها خلال عمله، وتحولت إلى دليل ناطق له عن مدينة صور، عن مدخلها وشاطئها وحاراتها.
تترك الصورة تتجلل في لوحاتها لتطل على حرفة المراكب التي تروي سيرة البحر المنقوشة فـي أشرعة التاريخ، جسَّدها الحِرَفي إيليا بوبور، ابن الثمانين عاماً في مركب شراعيّ فينيقيِّ الهوى، أثلج قلوب كل تواق الى ذاك الزمن القديم فجاء مركبه فينيقية، مقدمته رأس ورقبة حصان، وفي الخلف ذنب حورية بحر، تشاهده يعمل على مجاذيف تسيرها سواعد بحارة، وقد قدم بوبور جواز عبور أخر الى السياجة "الصورية". وقد فاز ذلك بالمرتبة الثالثة في معرض للمراكب أقيم في دولة البرتغال عام ألفين.
تترك المراكب تسير في بحرها وتنطلق ناحية قلعة صور البرية ثم البحرية، ولكن قبلا لا بد من أن تعرِّج على متحف "الحيوانات البحرية والبرية"، تسافر معه الى عالم البحار، تتعرف على أكثر من مئة نوع من الحيوانات النادرة المحنطة، وضعت داخل المتحف الذي أرسى قاعدة سياحية من نوع جديد في منطقة صور، تشعر وكأنك تغزو الحياة البحرية والبرية معاً يصادفك فجأة ذئب، يتبعه ضبع، في هذا المتحف الذي أسسه الدكتور جمال يونس أوائل العام 2002.

ومن دون إنذار تسرقك الرحلة من المتحف البحري لتنقلك عبر نفق ذو أبعاد أخرى، تنزلق عبره الى متحف التراث الفلسطيني الذي لملم كل تراث فلسطين، أكثر من ثلاثة آلاف قطعة أصليّة تتعلّق بالفنون والآداب والتقاليد الشعبيّة الفلسطينيّة تقفز الى مخيلتك، تدغدغ عقلك الذي يستشرف إرث فلسطين، من أوانٍ ونحاسيّات وفخّاريّات وعملات ومطرّزات تعود إلى ما قبل العام 1948، جمعها محمد دكوَر من الأسواق القديمة وقدمها كلوحة تراثية سياحة الى صور من بينها " قطعة ذهبيّة ( عيار 18) وهيَ عبارة عن شجرة زيتون (شعار فلسطين) وعليها قبّة الصخرة "، " قفل سجن عكّا ".
تساير السياحة كل أنماط الحياة تبدو أنيقة متفذلكة تقدم اليك جواز عبور بدون "فيزا" الى "دردغيا" حيث فضول القديم يدفعك لتتبع معالم القرية التي قلّ نظيرها، "تتغنج" بفرادتها الهندسية البيزنطية التي تعود الى 2650سنة..تدخلها، تجدها "شامخة" بمنازل حجرية متلاصقة ذات العقد القديمة ونوافذ خشبية معتَقة تربطها أزقه ضيقة، محفور فيها ذكريات أجداد غادروا، لكن بصمتهم ما زالت تخبرها كل زاوية وحجر… تشدك "كمغناطيس" عجيب لتشكل فيسفياء غريبة بثوب "العشق".

قلعة ديركيفا
وبحسب الباحث في الحضارات البيولوجية والجيولوجية والإثنولوجية موسى ياسين فإن قلعة دير كيفا تعود الى مارون إبن يثرون إبن عيص شقيق النبي يعقوب. وتسمى بالقلعة الآرامية، نسبة الى سمعان "الوطني الغيور، تتألف من ثلاث طبقات، وتمتد على مساحة عشرين ألف متر مربع، فيها أربع ينابيع و365 بئراً، و12 برجاً بعضها دائري أرامي كنعاني وبعض منها مربعة صليبية، كان فيها مدينة رياصية وصالات للإجتماعات وتحوي قصر الملك ناحية الغرب وأقبية، تأخذ الشكل المربع، وتزاوج بين حضار الكنعانيين والاراميين والبيزنيطين، ومكث فيها السيّد المسيح عليه السلام وكانت بلدة دير كيفا تعتبر من القرى العشر التي أهداه إياهم أحيرام ملك صور.

تغادر دردغيا التي تحاكي ثوباً مزركشاً بألوان "الجمال التراثي" وتتوجه ناحية دير كيفا هنا تسمع عزف المهباج الذي يردنح أغنيته على مرأى من قلعة "مارون" التي تستريح على تلة شامخة ولكنها سجينة اللوحة التراثية المهشمة، يدق الخطر بابها، يتدلى الإهمال من أحضانها، فيسرق منها كل تفاصيلها ومعالمها دون أن يترك لها شيئا، حالة اهتراء زمني واضح للعيان، أسوار مهتزة منزوعة الشكل،مساحة شاسعة تقطعها وأنت تحاول أن تجد أثار القلعة،الى أن يطل عليك ما تبقى من قناطر تزاوجت مع نبات الصبار، وتداخلت مع جدران المنازل، وأكثر ما يستوقفك هي تلك الشجرات المزروعة حديثا في صالات الرياضة، تعيشها قلعة مارون الارامية الكنعانية، التي بنيت على تلة جبلية، من قبل آرام بن يعقوب على مذنب تومات نيحا من السلسلة الغربية لجبال لبنان، تحاورها السهول الزراعية، فهي كانت قلعة تجارية اكثر منها سكنية.

زمنين وعالمين
تترك مارون تعاند إهمالها، لتعرِّج على الحاجة رباب نور الدين تلك الحاجة التي تعيش زمنين وعالمين مختلفين في أبعادهما، في منزل يعبق منه أريج الأيام الغابرة تعيش "امرأة المهباج" والقهوة العربية وحراسها الـ20 قطة… تستقبلك في منزل قديم لم يشهد أي تغيرات منذ زمن بعيد، تُرك على حاله، باب خشبي قديم تفتحه على زمن مضى غرفة قديمة بكافة مقتنياتها وحتى هندستها، محتوياتها تعيد إليك "بهجة" من ريح الزمن الذي يطوف في فكر كل جيل، في هذه الغرفة وحده التراث يتحدث بلغة "المهباج" تارة حيث تعزف الحاجة رباب لحن قهوتها، وطورا بلهجة الزمن وتعابيره الدقيقة، "اروع ما في منزلها هي تلك "الكبكة" المتدلية من سقف "مملكتها" تزينها طرحة بيضاء، تعبر عن بساطة المنزل الجنوبي القديم بكل تلاوينة.

                                       

قلعة الشقيف
وتعد من أشهر القلاع التي تسابقت الجيوش لإحتلالها،نظرا لموقعها الجغرافي على تلة جبلية عالية يجري في أسفلها نهر الليطاني وتطل على وادي الحجير، إذ يشير الباحث موسى ياسين "بنيت على مثلث مائي من الحجارة العمياء على ذوق القرون الماضية، ويعود تاريخها الى زمن الكنعانيين الى 3000 سنة إيام "الجعدية" ابنة النبي شعيب ثم أتى الصليبيون ورمموها، بعدها جاء العثمانيون ومكثوا فيها حتى العام 1850 ليحتلها الفرنسيون ثم اليهود. ومكث فيها آل الصغير وكانوا من "الباكوات" آنذاك، ومن ثم إحتلها الإهمال والأعشاب وضاعت في غياهب البحث عمن يعيد لها المجد والمكانة، ويسعى لتحريرها من الأهمال. وتمتاز بنوعية الحجارة العمياء،والبناء العشوائي المربع الشكل والهندسة المتفانية،شهدت القلعة العديد من الحروب الشرسة ومن أشهرها على الإطلاق معركة الصفرا التي شنتها إبنة النبي شعيب ضد يوشع بن نون من أجل الارث"، دمرت أكثر من مرة وأعيد بناءها، مرات عديدة

فجأة ومن دون مقدمات تقلع بك رحلة "ألرقم السياحي الصعب الى وادي الحجير بيوت على الطراز الصيني ترافقك قبل أن تفرق ناحية علمان البلدة الصغيرة، بحيرة عملاقة تزنرها زهور صفراء تسرق بصرك لتصاحبك في استجمام تاريخي الى القلعة العلمانية، أو قلعة "اليازون" المركز الدراسي العالي في زمن بني كنعان، لا يختلف حالها كثيراً عن سابقاتها، تعيش صراعاً ما بين الإهمال الذي قضى على جزء كبير من معالمها، وبين تاريخها التي تحاول المحافظة عليه، صراعاً يبدو جليا على حجارتها المتبعثرة بين الأعشاب التي اجتاحتها، ونكَّلت بها وغيّرت من معالمها وطمست تاريخها، ومع ذلك تسرق القلعة العلمو – عسكرية أنظارك قناطر شبه معلقة،تعود للعصر الروماني متلاصقة جنبا الى جنب،ثم ساحة كبيرة فقناطر متلاصقة أخرى وبمحاذاتها، "عليّة" من طبقتين أولى غِرف للإسطبل وثانية سكن الملك. تتكأ" القلعة التي كانت تعتبر مدرسة للدراسات العليا في الطب والفلك وتركيب الأدوية والفقه والدين على حرش زيتون كنعاني، يعود الى أكثر من 2000 عامٍ وهو الفاصل ما بين قلعة الملك والمَعَاصِر الحجرية القديمة.

وادي الحجير
تغوص مجدداً في وادي الحجير الذي يحبك قصة الجمال ولكن على طريقته المتفلته من قبضة "القيود". صخور ناطقة تسايرك في طريقها الى مطحنة "عين الرمانة". دولاب الهواء الكبير يثير فضولك لتعرج الى داخل المطحنة يُخيل اليك أصوات قرقعات حجار "الرحى"، فيما يتراءى لك برّاك المطحنة أبو يوسف وهو منهمك في إنزال عدول القمح والشعير عن ظهور الدواب لينقلها الى داخلها، حيث تكون أجرانها الخشبية جاهزة لإستقبالها" تلك الصورة تجدها صامتها بين أجران القمح وطواحينها التي تحولت، فقط، مزاراً وملاذاً للصغار الذين يبحثون عن التراث ليلتقطوا صورة قربها، هي من أقدم المطاحن المائية في لبنان، تعود الى ألاف السنين عاصرت حقبات مهمة في الجنوب أبرزها: الثورة التي قادها المناضلَيْن أدهم خنجر وصادق حمزة ضد الفرنسيين، عقب مؤتمر وادي الحجير الشهير الذي عقد في العام 1920 داخل المطحنة".
يبدو الجنوب كتاباً مفتوحاً على مصراعيه، أماكن خلابة ترافقك وأنت تشق طريقك ناحية "دوبية" القلعة الكنعانية المترامية على جبل بشكل منحوتة فقدت من حيويتها، بعد أن إنكمشت بحالة مزرية جراء إمتداد الإهمال وإقصاء اليد الحكومية عنها، تلك الحال تتلاشى ما إن تقرأ جمالية الهندسة التي تختزنها "المربض" أو الرابضة في حضن الجبال،تقع بين بلدتي حولا (عاصمة الكنعانيين)وشقرا(ابنة النبي يعقوب حوما)،عند مثلث ودياني إستراتيجي للغاية تحوطه مجموعة قلاع بمثابة حصانة للقلعة،التي كانت مخصصة للسكن، تشرف على ضفاف نهري وادي الحجير ونهر السلوقي، وتعتبر من أهم المزارات السياحية في الجنوب اللبناني.
ومن "دوبية" تقلب صفحة الكتاب. إنها بنت جبيل تصادفك في عبورك ناحية حديقة مارون الراس التي تستشرف فلسطين، في لوحة فنية تجريدية من قيود الحال، ترافقك حتى أخر نقطة حدودية في حصن الوزاني حيث يعانق نهر الوزاني طيف الغجر. في حضارة "الحصن" تطل على نمط سياحي خارج عن مألوفه حضارة مغربية مذيلة بنمط بيزنطي وطابع إفريقي سمة الحصن الذي يقدم طبقاً سياحياً مختلفاً.

الشقيف قلعة الأنبياء
إختلاف الحصن يحملك في إقلاع عكس الزمن، هذه المرة الى أهم قلعة "جنوبية" الشقيف قلعة الانبياء..ثارت على الإهمال فنجحت في حصد الترميم الذي سيعيد لمجدها وشموخها بريقه الذي ضاع في غياهب النسيان لسنين، تحملك حجارتها المعتقة المتبعثرة في أماكن عديدة في رحلة عكس الزمن الى زمن الكنعانيين، إلى عام 600ق.م حيث بنيت في زمن النبي إفرائيم ابن النبي يوسف "ع"، من الحجارة المعتقة على ذوق القرون الماضية،تشمخ بمعظمها على قمة تل يجري في أسفله نهر الليطاني، في تلك البقعة الجبلية المسماة قلعة الشقيف التي لم تتمكن لا إسرائيل، ولا الإهمال والزلزال الذي ضربها عام 1852 وغيَر معالمها، من أن يأخذوا سر شموخها، فهي التي حفرت في باطن الجبل الصخري وشقفت من الصخور، في حضرتها "بوفور"،تتعرف على تاريخ الحضارات التي زارتها" الصليبية، العثمانية" وتطل عبر نوافذها على فلسطين والليطاني…
وعلى قرقعة التأهيل التي تشهده القلعة تسافر مجددا الى مغارة الريحان أو ما تعرف "بجعيتا الجنوب"،نظرا لجماليتها ولنتوءتها البلورية،ذات الأشكال الفنية التي رسمتها تحجرات السنين عبر المياه، وألّفت المياه المتجمدة صخور المغارة، فخرجت كما لو كانت لوحة تراثية فنية، تحكي سيرة عصر عاشته في حقبات قديمة، إذ تتآلف المغارة البالغ طولها 180متراً وعرضها يصل في بعض الأماكن الى عشرة أمتار، مع موقعها في عمق أعماق الريحان،وتكتنز في جوفها الكثير من عناصر أبدعها الخالق…

أسرار سياحية
تشبه السياحة الجنوبية لوحة تجريدية تكعيبة تحوي كل انماط السياحة، تخلع مناقبية التشكيل الصامت، فحين تعبر الى سهل الميذنة تتجادل الطبيعة فيما بينها مع الجبال الناطقة التي يتظل في كنفها "حتاحيتو" الحنطور الذي شدّ إنتباه الكثيرين نظرا لفرادته التصميمة التي تحملك في رحلة الطفولة، داخل خيوط شمس سهل الميدنة في كفررمان، تشعر وكأنك انتقلت بين سويسرا وباريس وحتى تركيا لا بل تشعر وكأنك في خارج حدود المكان.
بإختصار في العمق الجنوبي أسرار سياحية تشبه "النرد" في لعبة الشطرنج، ستكون حتما الرقم الصعب في اللعبة "ألسياحية" التي فرضت نفسها "عنوة" على الخارطة السياحية التي غيَبتها لسنين طوال..ولكن هل من يتحرك لكي يحفظ هذا الإرث الذي يتهاوى مع الإهمال على مرآى من حكومة لا تبالي غير بالسياسة الفاسدة؟  

السابق
تسجله في قائمة الخرفان !!
التالي
أردنيون يطردون سياحاً يهوداً