العونيّون يواجهون حرب الرئيس

على الرئيس ميشال سليمان أن يخشى أكثر بكثير من طعن قوى 14 آذار بقرار «الإصلاح المالي». عليه وهو يقف على مسافة واحدة من الجميع أن يخشى طعن قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر بـ«رئاسته غير الدستورية». فالعونيون كما أظهرت جلسة المناقشة العامة لن يتحملوا أن يقف شيء في وجه إنجاح حكومتهم، ولن يسمحوا بالتالي لسليمان بتعطيلها

يقف الرئيس ميشال سليمان في المنتصف تماماً بين الفريقين المتصارعين. لا يلعب دور الحكم، بل دور إبرة القبّان التي يفترض ألا تتيح لطرف أن يغلب الطرف الآخر. قناعة العونيين الراسخة بدأت تقنع حلفاءهم من حزب الله وحركة أمل، وصولاً إلى الوزير محمد الصفدي، وربما الرئيس نجيب ميقاتي أيضاً: موقع سليمان الوسطي ومهمته يوجبان منعنا من تحقيق أي انتصار. أساس المهمة في هذه المرحلة منع الحكومة من الإنتاج وتنغيص هناء العونيين في الدوائر الانتخابية التي يعتبرون أن فوزهم فيها محسوم. حتى لا يكاد يمر يوم من عهد رئيس الجمهورية إلا تزداد المشكلة تعقيداً بينه وبين الفريق السياسي الذي يمثل رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون أحد أعمدته.

ففي الحكومة وخارجها، ليس بإمكان هؤلاء رؤية منافس لسليمان في عرقلة عملهم الحكومي، ومحاصرة نفوذهم في الإدارة ولملمة المناوئين لهم في المناطق الانتخابية. ويمكن في هذا السياق أخذ الأسبوع الذي مضى نموذجاً.
اليوم الأول كان جبيليّاً. يمثل دائرة جبيل اليوم ثلاثة نواب عونيين. ومقابل إجماع قوى 14 آذار على أن المعركة في جبيل عبثية وتهدي انتصاراً محسوماً للتيار الوطني الحر، بفعل التأثير الكبير لـ«الصوت الشيعي»، يتصرف المقربون من رئيس الجمهورية كأن المعركة قائمة وفوزهم فيها قاب قوسين. فلا يبرز منافس للعونيين غير صهر الرئيس أو شقيق الأخير رئيس بلدية جبيل زياد حواط في عاصمة القضاء، وابن الرئيس أو وزيره ناظم الخوري في عمشيت. ويروى هنا الكثير عن تدخل ما بات يعرف جبيلياً بـ«القصر الجمهوري» في كل شاردة أو واردة تتعلق بإنماء القضاء، للإيحاء للمواطنين بأن القصر يسعى خلف الإنماء، لا نواب القضاء. فلا يكاد يبدأ العمل مثلاً في طريق بير الهات ـــ قرطبا نتيجة متابعة نواب جبيل لمشروع أمضى أكثر من ثلاثة عقود في أدراج مجلس الإنماء والإعمار، حتى يُحضِّر رئيس بلدية قرطبا القريب من الرئيس المسرح ويطل شاكراً لسليمان جهوده، من دون ذكر نواب القضاء ولو بكلمة واحدة. وفي السياق نفسه، يتحول أحد المسؤولين الأمنيين في المدينة إلى ما يشبه المتعهّد، فيطارد كل ما يتعلق بالأشغال كطريق أدونيس ـــ يحشوش مثلاً، ليتسلق الزفاتة، متكلماً مع الأهالي كأنه الناطق باسم القصر الجمهوري، مبلغاً من يتصل به أنه «يحكيهم من القصر». يبين ما سبق بعض المشكلة من دون أن يلغي تأكيد جبيليين كثر أن «العهد» وفّر لأبنائهم بعض الوظائف في القصر الجمهوري والكازينو وغيرهما. لكن إنجازات الرئاسة الإنمائية لم تكن كبيرة مقارنة مع أوتوستراد المتن السريع، سد فرشوخ وقصر المؤتمرات التي قدمها الرئيس السابق إميل لحود لمنطقته. هنا ساهم الرئيس في تسريع العمل في أوتوستراد عمشيت ميفوق، أحضر صفين من الجامعة اللبنانية إلى عمشيت وسمح بإطلاق اسمه على شارعين: واحد في بلدته عمشيت والثاني في لحفد حيث يصيّف.

في ثاني أيام الأسبوع، الثلاثاء، كان يمكن زيارة الكازينو حيث تجاوز عدد موظفي الاستقبال السبعين بعدما كانوا أقل من خمسة عشر موظفاً في بداية عهد صهر الرئيس وسام بارودي في الكازينو. ومع ذلك تتراجع الإنتاجية: 12 موظفاً كانوا يديرون أربعة مداخل. أما اليوم فأقفل مدخل ليدير أكثر من سبعين موظفاً ثلاثة مداخل فقط. وفي عهد فخامة الرئيس ميشال سليمان، اضطر ديوان المحاسبة ووزارتا المال والعمل إلى فتح تحقيق للتدقيق في ما يشاع عن هدر للمال وتوظيف سياسي وغيرهما في هذا المرفق الحيوي. والكازينو في لغة جبيل ـــ كسروان ليس إلا جزءاً من ماكينة انتخابية تستخدمها الرئاسة الأولى لتعزيز حظوظ المرشحين المقربين منها ومحاصرة نفوذ خصومهم.

أما الأربعاء فحمل مناسبتين تسهمان في توتير الأجواء أكثر فأكثر بين العمادين. الأولى جبيلية لم ينتبه لها كثيرون، والثانية عامة. فقد ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام يوم الأربعاء الماضي أن «الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري زار مدينة جبيل، وجال في أرجائها. وكان في استقباله رئيس البلدية زياد الحواط وعدد من أعضاء المجلس البلدي». جالوا في المدينة، قبيل عقد الحريري اجتماعاً في دار البلدية مع رئيس وأعضاء المجلس البلدي، وبعد تلبية الحريري «دعوة حواط الى مأدبة غداء أقامها على شرفه». هكذا كان يمكن العونيين التفرج على حواط، وهو شقيق صهر الرئيس وسيفه الحاد في مدينة جبيل، يولم للحريري الذي لا يحلم بأن ينظم له حلفاؤه في قوى 14 آذار جولة مماثلة، حتى في بشري. وحواط نسي دون شك أن الحريري شخصية سياسية لا إنمائية أو رسمية، فيما هو يرفض التكلم غالباً مع نواب منطقته لأن «منطلقهم سياسي، فيما منطلق حواط وأهدافه محض إنمائية».

وفي اليوم نفسه، كانت الأزمة تنفجر بين الرئيس وفريق تكتل التغيير والإصلاح السياسي في مجلس الوزراء. بعد انتقال فخامته أخيراً إلى معالجة الملف المحلّي الأكثر تعقيداً بعد سلاح حزب الله: الملف الماليّ. فقد ضرب الرئيس على الطاولة بيده ورفع صوته، رافضاً الاستجابة لضغوط تكتل التغيير والإصلاح وكتلتي الوفاء للمقاومة والتحرير والتنمية ووزير المال محمد الصفدي الذين يطالبونه بتوقيع مرسوم الإنفاق الحكومي الذي بات يعرف بمشروع قانون الـ 8900 مليار ليرة.

كان يمكن الحكومة أن تفاخر بأنها «أنظف» من حكومات الرئيس فؤاد السنيورة، وأكثر حرصاً على تحديد أين يصرف المال العام. لكن الحكومة التي أنعشها تجديد المجلس النيابي ثقته بها، وجدت نفسها أمام حاجز رئيس الجمهورية، إذ رفض الأخير ممارسة صلاحيته والتوقيع. والنتيجة: توقف وزارة المال عن صرف الأموال بطريقة قانونية. يمكن لموقف كهذا أن يشل البلد بالكامل: لا مال للمتعهدين التابعين أو المتعاقدين مع وزارة الأشغال العامة، لا مال لمستوصفات وزارة الشؤون الاجتماعية ولا مال لوزارات الصحة والتربية والشباب والرياضة والزراعة وغيرهم. حتى إشعار آخر: يمكن الدولة أن تقبض، لكن لا يمكنها أبداً أن تصرف أكثر من أجور الموظفين بفعل المخرج الذي وفره الصفدي. وهكذا على العونيين وأد حماستهم مرة أخرى لإنجاز بعض المشاريع الإنمائية التي تعزز حظوظهم الإنمائية والانصراف بدلاً من ذلك إلى معالجة التداعيات السلبية لقرارات خفض حجم ربطة الخبز ورفع سعر البنزين.

أما الحل في حال أراد الوزراء تجاوز قطوع التعطيل فهو سهل: أولاً، تصرف الحكومة دون قانون، فتتساوى حكومة ميقاتي مع حكومتي السنيورة وحكومة الرئيس سعد الحريري، ويفقد العونيون لذة التلويح للسنيورة بإمكان محاكمته يوماً ما. ثانياً، إعداد الحكومة مشروع قانون الموازنة وإحالته إلى المجلس النيابي، الأمر الذي يعرف الرئيس أنه مستحيل بحسب تصريحات وزير المال ولجنة المال والموازنة وديوان المحاسبة. ثالثاً، اتفاق الأكثرية والأقلية على تسوية تشمل كل الملف المالي. وهكذا يسحب الرئيس من قبضة العونيين ملفهم الأول، أي الملف المالي لحكومات الحريرية، الذي بدا في مناقشات المجلس النيابي الأخيرة أنه بات ملف جميع قوى المعارضة السابقة الأول، لا العونيين فقط.

الفاعل هنا رئيس الجمهورية. والضحية حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تمثل بالنسبة إلى غالبية المقربين من فخامته حكومة العونيين. والخاسر المضمر هو سليمان الذي يكاد ينهي عهده من دون صدور قانون موازنة عامة. أما الرابح شبه الوحيد فهو تيار المستقبل الذي قدم له سليمان هدية سياسية تعوضه «هزيمة» جلسة المناقشة العامة. وحجة الرئيس في كل ما سبق هو خشيته من الطعن بعدم قانونية القانون جراء ملاحظات لجنة المال والموازنة. لكن النواب العونيين يبدون ماضين في استراتيجية الهجوم بدل الانكفاء للدفاع، فيشير أحدهم إلى أن ما يستوجب من الرئيس الخشية هو الطعن بقانونية انتخابه رئيساً للجمهورية، ولا شيء آخر. ويشير في هذا السياق إلى أن المادة 49 من الدستور تنص بوضوح على أنه «لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد». وتتحضر بالتالي عدة الطعن بشرعية الرئيس ميشال سليمان الذي انتخب دون تعديل المادة 49 من الدستور، ليقرر العماد عون لاحقاً ما سيفعله على هذا الصعيد.

يوم الخميس، كان بعض النواب العونيين يعقدون اجتماعات مع بعض الشباب الذين سارعوا إلى تقديم سيرهم الذاتية حين شكلت حكومة ميقاتي، تلبية لحماسة حزبهم إلى الإمساك بالإدارة العامة جدياً ولعشر سنوات على الأقل بفضل التعيينات الإدارية. وهنا أيضاً كانت مساحة التوتر مع سليمان تزداد أكثر فأكثر. وهنا الجزء الكبير من الحسابات جبيلية أيضاً. سليمان لا يريد تعيين محافظين جدد ليبقى شقيقه القاضي أنطوان سليمان ممسكاً بإدارة أكثر من نصف لبنان، مساحة وسكاناً (محافظتا البقاع وجبل لبنان). وسليمان يصر على تعيين القاضية أليس شبطيني العم، التي لم تمسك يوماً بمركز حساس في العدلية. وإصراره مبني على أمر واحد لا ثاني له: زوجها جبيلي. والنتنجة أن سليمان سيحظى أيضاً بلقب «أول رئيس جمهورية ينقضي عهده من دون حصول التعيينات».

أما يوم الجمعة فيشهد غالباً كثافة في اجتماعات للثرثرة الانتخابية في أكثر من مطعم كسرواني. هنا أيضاً يحضر الرئيس أكثر من كل الآخرين، وتقود كل الأحاديث إلى خلاصة واحدة: تبدو حماسة سليمان ـــ أو المقربين منه ـــ لصهره وسام بارودي والنائب السابق منصور البون أكثر بكثير من حماسته لمرشحي البطريركية المارونية ورئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام ووزير الداخلية السابق زياد بارود، لا لشيء يقول أحد الخبثاء، إلا لأن احتمال أن يقبل عون ضم افرام أو بارود إلى لائحته أكبر بكثير من احتمال ضمه البون أو بارودي. وبالتالي فإن افرام وبارود جزء من الحل، لا المشكلة التي يفضلها سليمان، يتابع المصدر نفسه. وفي السياق نفسه، تطرح المعادلة السابقة أسئلة جدية حول طريقة تفكير الرئيس التي تجعله يفضل وسام بارودي على زياد بارود في النيابة، ومروان شربل على زياد بارود في الوزارة. تماماً كما يفضل منصور البون على نعمة افرام في النيابة، وناظم الخوري على نعمة افرام في الوزارة.
كل ذلك، والرئيس يواظب على غسل يديه مما يتخبط به العونيون، مدعياً أنه على «مسافة واحدة من الجميع»، الأمر الذي يصعب مهمة العونيين الذين تحولهم مواقف الرئيس من أصحاب حق لا يمكن الرئيس إعطاءهم إياه إلى متهمين بالضغط على الرئاسة الأولى.

لكن في الرابية من يكاد أن يحسم الأمر: «لا عودة إلى استراتيجية الدفاع. بدل أن يخشى الرئيس أن تطعن قوى 14 آذار بقرار الإصلاح المالي، عليه أن يخشى من طعن قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر بدستورية انتخابه رئيساً».

السابق
الاخبار: حلحلة عقدة بواخر الكهرباء مع الشركة التركيّة هذ ا الأسبوع
التالي
عشاء سري في خلدة