فشل مبادرة أنان واستمرار المحرقة

لم يخيّب النظام السوري توقعات وترجيحات الغالبية الساحقة من المراقبين السياسيين العرب والدوليين، وبالأخص الخبراء منهم في شؤون الأزمة السورية، وسلوك السلطة القابعة في دمشق لجهة انقلابه على مبادرة كوفي أنان العربية الدولية. فالنظام الأسدي الذي وطد حكمه على امتداد أربعين سنة ونيف من الظلام بانياً إياه على تسلط أجهزة الأمن والمخابرات والسيطرة الفئوية وعسكرة سوريا لمصلحة شريحة طفيلية تنتمي الى عائلة واحدة وأقاربها المحظوظين، والذي أصبح مرادفاً للسجون والمعتقلات والزنازين ومراكز التوقيف والتحقيق والتعذيب والتصفية السرية، لن يكن بمقدوره أن يتغير. فقد اعتاد المناورة والمراوغة والخداع والتلاعب وعلى الرهان المستمر والمزمن على عامل كسب الوقت متشبثاً بامتيازاته ومكاسبه المغتصبة ومواقفه المحاصرة، وسط بحر هائل من الدماء والمدن المحروقة وأعداد نوعية من الضحايا والجرحى والمعتقلين والمفقودين والنازحين المشردين داخل سوريا وخارجها. ففي الوقت الذي يعلن لفظياً قبوله بمبادرة أنان، على قصورها وثغراتها، وبالأخص ذلك البند الذي ينص على سحب دباباته خارج المدن والقرى التي حوّلها إلى حرائق وركام وأشلاء بشرية وشظايا، والذي يتعهد فيه بوقف إطلاق النار، يعمد إلى الالتفاف على قبوله الظاهري بوعوده الكاذبة نفسها بفرض شروط تعجيزية لا تخفي في حقيقتها سوى إصراره على متابعة الحرب. فنظام دمشق يشترط لوقف اطلاق النار، أن تلتزم "العصابات الإرهابية المسلحة" بتعهد خطي للمبعوث الدولي بوقف النار. وهي الصفة التي يطلقها عادة النظام على "الجيش السوري الحر" وهو الذراع العسكرية للمجلس الوطني السوري وسائر أطياف المعارضة.
لا بل يذهب حاكم دمشق أبعد من ذلك عندما يطالب بمنتهى الصفاقة "الرياض" و"الدوحة" بوقف دعم وتأييد الانتفاضة السورية بتعهّد خطي أيضاً. أي انه في الوقت الذي يرفض الاعتراف بـ"الجيش السوري الحر" الذي أعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد ابتداء من ظهر الثلاثاء في 15 نيسان الجاري، يريد من الشعب السوري المنتفض بوجه حكمه الظلامي الدموي البربري أن يصبح أعزل بلا دعم ولا مساندة ولا مساعدة ولا اغاثة ولا حتى موقف تضامني جدي وملموس حتى يتسنى له أن يجهز عليه نهائياً.
لقد ذهب النظام الأسدي في حربه المدمرة ضد الشعب السوري كل مذهب، فقد أصبح عدد القتلى يناهز يومياً المئة والخمسين، كما يعيد تسليط مدافعه ونيران دباباته ومروحياته العسكرية من جديد على حمص وحماه وادلب ودرعا ودير الزور، بل يجدد اقتحامه البربري لها، بل حتى القرى الصغيرة في الأرياف لم تسلم من وحشية آلته العسكرية ودمويتها الهستيرية فتحولت بدورها الى انقاض وحرائق واطلال وركام.
ولم يكتف بذلك التدمير الاجرامي المبرمج، ولم يقنع بزرع الألغام على طول امتداد الحدود السورية مع لبنان وتركيا والاردن ليمنع الاطفال والنساء والشيوخ والمرضى من الفرار من جحيم حرب الابادة التي يستمر فيها، بل راح يطارد النازحين السوريين الهاربين من القتل والذبح والاغتصاب ونهب المنازل والتمثيل الوحشي بالجثث وإحراق الأحياء، حتى داخل الاراضي التركية نفسها حيث امطرت مدافعه قذائفها على "كلس" لتطاول مخيمات اللاجئين المساكين، وانتقل قناصته الى وادي خالد في لبنان فاستهدفوا الصحافيين اللبنانيين الأبرياء، علناً أمام سمع وبصر الحكومة اللبنانية التي نصّبها هو نفسه على أرضنا.
إن نظام بشار الأسد يطيح عملياً وبالملموس مبادرة "انان" ويعلن دفنها غير عابئ لا بالجامعة العربية ولا بالمجتمع الدولي بانتظار اعادة انتاج سيناريو جديد في مجلس الأمن حيث الفيتو المزدوج الروسي والصيني يقدمان له رخصة جديدة مستعادة للمزيد من حمامات الدم. فجعبة نظامه تذخر بما لا يوصف من فنون الكذب والنفاق والمراوغة، وتراه يشابه حتى التماثل هتلر وفرنكو وبينوشيه في آن معاً في وارسو ومدريد وسانتياغو؛ بل حتى ايهود اولمرت في حربه على غزة وجنوبي لبنان يكاد يكون تلميذاً مبتدئاً بالمقارنة مع تعطشه الهستيري لاراقة الدماء وسحق الابرياء وتدمير المدن والقرى، وكأنه يعيد لذاكرتنا فظائع الجيش الأميركي في فيتنام حيث كانت الاوامر للمارينز تتلخص بشعار "FInd and Kill" "جد واقتل"، بل "أطلقوا النار على كل ما يتحرك!".
الى ضباط وجنود الجيش السوري الحر، ومن يحتضنه في كل أرجاء سوريا، لأولئك السوريين الذين استبد بهم اليأس، للامهات والاخوات المولولات المتشحات بالسواد وعلامات الحريق على وجوههن، للابطال الصامتين العاملين المتفانين حتى الشهادة في سحب الجثث من الشوارع وتضميد جراح المصابين في مراكز الاسعاف المستحدثة في ملاجئ حمص وحماه وادلب ودرعا الى آخر درب الصليب السوري المعفر بالاشلاء والشظايا، ونتف من مزقتهم قذائف دبابات ومدافع ومروحيات القوات الفاشية الظلامية البربرية العمياء، وأولئك النازحين السائرين المنهكين بين الالغام الى المنافي القسرية ومراكز التجميع الحدودية، الى كل علي شعبان الباحث للحقيقة، إلى آخر الفرسان العرب المصرين بعناد على وشائج الروح القومية، الى كل الذين ما عادوا يصدقون كلمة من الوعود الدولية ومساعيها التي تفوح منها رائحة التخاذل والنكران، نرتل مع الشيخ امام "صرخة غيفارا يا (أحرار) في كل مطرح أو مكان، يا تجهزوا جيش الخلاص، يا تقولوا ع العالم خلاص!".
تلك هي الحقيقة!
  

السابق
أخطار تهدّد إجراء الانتخابات في موعدها
التالي
لا مَطْهَـر بيـن الأرض والسمـاء