لن تستسلم الشعوب العربية للذل وتداعياته

ما من شك على الاطلاق ان الانتفاضة الشعبية السورية التي مر على اندلاعها أكثر من عام والمعارك الضارية التي تخوضها بإمكانيات عسكرية محدودة بوجه آلة عسكرية عمياء وأجهزة أمنية متشعبة وعملاء قتلة محترفين تستأثر باهتمام الجماهير العربية والمجتمع الدولي. فالمجازر الوحشية وحمامات الدم المتواصلة والتصفيات المرعبة وأساليب التعذيب المخيفة والاعتقالات الجماعية والاعدامات الفورية ظلت تحتل الصفحات الأولى ومطلع نشرات الأخبار في التلفزة والراديوات والمجلات العربية والعالمية. إلا ان ثمة مسائل مثيرة للقلق البالغ، وهي مسائل قد لا تبدو في غاية الخطورة للوهلة الأولى، إلا اننا لو امعنا النظر فيها والتدقيق لوجدناها شديدة الأهمية ومن الخطورة بمكان الا وهي بالضبط مسألة العادة أو التعوّد الذي بدأ يخالج نفوس الجماهير العربية في تعاطيها اليومي مع أنباء الأحداث الهائلة الجارية على أرض سوريا من جهة، ومسألة النازحين السوريين الهاربين من جحيم المعركة والمناطق المشتعلة داخل سوريا نفسها وخارجها أيضاً.
إن أخطر ما يجري الآن على صعيد الساحة العربية هو هاتان المسألتان. ذلك ان استمرار المعركة وديمومتها وتواصلها، وهي ذاهبة على ما يبدو الى أمد ليس قصيراً على الاطلاق، قد جعلنا دون وعي ارادي منا نعتاد شيئاً فشيئاً على رؤية الضحايا والشهداء يسقطون يومياً وكل ساعة بالعشرات. لقد تعودنا ان نشاهد ركام الأبنية ولهيب الحرائق المشتعلة المتصاعد من المنازل والمحلات، كما أصبحت مشاهد الجثث الملقاة في الشوارع وتلك المسجاة في البيوت والشقق "الآمنة" حتى إشعار آخر، والسيارات المدمّرة المسحوقة في الطرق، والأطفال القتلى، وصراخ الأمهات والاخوات، وصيحات الذين يواجهون الموت ببسالة أسطورية مسألة تكاد تكون عادية.
تعودنا ـ وهذا بالضبط ما يريده النظام ـ على رؤية الدماء تسيل من بشر مثلنا كانوا أحياء معافين منذ ساعة أو ساعات، فأدمنّا على الجلوس أمام التلفاز، وعلى التقاط آخر الأخبار. ولشدة ما تعودنا ما عادت تهزنا الأخبار، فرحنا بعد كل نشرة أخبار، وبعد قراءة الصحف، نقفل التلفاز أو الراديو أو نطوي الجريدة لننصرف الى أمور أخرى، أو نخلد الى النوم. لا بل أسوأ من ذلك، عندما راحت أنباء المعركة الدائرة المستمرة تحتل العنوان الثاني في نشرات الأخبار، ذلك ان الإعلام كما نعلم يعشق الإثارة وهو دائماً بحاجة لما هو جديد الخ… فلم يعد الدم السوري سوى مادة إعلامية ثانوية تكاد تكون عادية أو مملة، فحذار حذار من هذا المأزق الخطير. حذار من الاستسلام للذل وتداعياته.
أما الشأن الآخر فهو قضية النازحين السوريين الذين تركوا بيوتهم وأرزاقهم وأعمالهم فالتجأوا الى بلدان الجوار السوري لا يلوون على شيء فأصبح همهم الوحيد البقاء على قيد الحياة سواء كان ذلك في الأردن أو تركيا أو لبنان. فحتى الأمس القريب ظل النازحون السوريون الذين استقروا في الأردن مقيمين عند أنسباء لهم أو لدى معارفهم هناك الى ان قررت السلطات الأردنية إنشاء مخيمات لإيوائهم بعد وصول الدعم السعودي والخليجي وقد أصبح سبعين ألفاً. أما في تركيا فقد سارعت الحكومة الى إنشاء معسكرات لاستقبالهم عند الحدود السورية، إلا أنها على ما نعلم فرضت عليهم شروطاً قاسية للإقامة عندما حظرت عليهم مغادرة مراكز التجميع واضعة إياهم تحت المراقبة، بينما لم تشدد المراقبة على الحدود مع سوريا التي استطاعت أجهزتها اختطاف أحد ضباط الجيش السوري الحر من داخل الأراضي التركية وهو حسين هرموش الذي أكره تحت التعذيب للإدلاء بشهادات ملفقة ضد رفاقه المنشقين. أما العقيد رياض الأسعد قائد هذا الجيش الحر وهو أبرز الضباط المنشقين فكاد بدوره يتعرض للمصير البائس نفسه لولا مسارعة احدى السفارات الغربية في أنقرة لتدارك الكارثة عندما أبلغت المخابرات التركية بالمخطط المرسوم له فتم احباطه في مهده.
صحيح ان اللبنانيين الشرفاء من أبناء عكار وعرسال والمناطق المتاخمة للقصير وحمص هبوا بنخوة وشهامة لاستقبال اخوتهم السوريين الذين نزحوا الى لبنان في ظروف مأسوية وسيراً على الأقدام في المقابر الوعرة التي قام الجيش السوري الرسمي بزرع الألغام في العديد منها. وتأبى الحكومة اللبنانية وهي صناعة سورية بامتياز الاعتراف بهم كلاجئين وقد أصبحوا بالألوف، فلم تقدم لهم أية مساعدات طبية أو غذائية ولم توفر لهم أية أسباب لإقامة لائقة بالبشر حيث نهش العديد منهم البرد والجوع والتشرد. لا بل لم تقدم لهم الحماية في وقت راح الجيش السوري الرسمي يشن غارات عسكرية وعمليات سطو واختطاف طاولت الوطنيين المعارضين البارزين منهم داخل الأراضي اللبنانية نفسها وذلك أمام سمع وبصر السلطات اللبنانية ما يشكل انتهاكاً صارخاً وقحاً لسيادتنا، ذلك انهم ليسوا بمأمن من شرور أجهزة الأسد حتى في قلب العاصمة بيروت، ونحن نسأل هنا من منظور الموقف التضامني مع الربيع العربي وطليعته المناضلة الثورية الانتفاضة السورية البطلة عن التقصير الفاضح الذي يعاني منه هؤلاء النازحون وعن ضرورة ان يهب بدوره كل وطني لبناني، وعن واجب مؤسسات المجتمع المدني في نصرتهم ومساعدتهم. ذلك انه من المآخذ علينا من منظور وطني وقومي وإنساني، ان نلوذ بالصمت حيال معاناتهم ومآسيهم.
فالمعركة الدائرة في سوريا تمسنا في الصميم، وقبولنا بهذا الظلم والتنكيل اللاحق بالشعب السوري في سوريا في لبنان، وعدم نصرة هؤلاء النازحين سيبقى وصمة عار على جبين القوى الوطنية والديموقراطية اللبنانية لأنها الفصيل السبّاق والمتقدم في حركة الربيع العربي السائرة نحو انتصار تاريخي محتوم.
  

السابق
وهم لافروف
التالي
أنيستون تشتري هدايا بأكثر من 500 ألف دولار لحبيبها!