هل فعلاً باع الفلسطينيون أرضهم وتخلوا عنها لليهود ؟!

تختلف أوجه الصراع مع العدو، منها العسكري ومنها الثقافي، ولكن الوجه الأكثر دقّة وخطورة هو المنحى القانوني، حيث تركّز الدعاية اليهودية على تصوير الأرض الفلسطينية باعتبارها ليست فقط حقاً «تاريخياً» لليهود، حسب ما يزعمون، بل وحق قانوني وشرعي، اذ يعمل إعلامهم بشكل دؤوب لرسم بروباغندا متكاملة مبنية على أساس أن «الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم لليهود» وأن اليهود اشتروها ودفعوا ثمنها وبالتالي من حقهم استوطانها وحكمها من دون أي وجه حق للفلسطينيين بأي مطلب بها، وبالتالي سحب أي شرعية بأحقية مستقبلية بالمطالبة بهذه الأرض!

الفكرة المركزية
انطلقت الدعاية اليهودية من فكرة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» وقامت على تركيزها وتثبيتها عبر عملية إعلامية متكاملة لتركِّز في العقل الباطني الجماعي فكرة عدم وجود شعب فلسطيني في هذه الأرض من الأصل، وبعملية مسح ممنهجة للذاكرة الاجتماعية والتاريخية لهذا الجزء من الأمة وتفاعله مع محيطه القومي وعلاقاته المتجذرة في هذه الأرض وروابطه التاريخية مع مجتمعه القومي، وبالتالي إعطاء «شرعية» حق مزعوم لكل يهودي لا يملك أرضاً أن تكون هذه الأرض ملكاً له.
ومع بداية تسليط الضوء على جنوب الأمة، فلسطين، من قبل المؤسسات اليهودية والبدء بحركة الاستيطان وإرسال المستكشفين والمستعربين، ظهر لهذه الفئة أنها أرض مسكونة من شعب متجذر فيها ومرتبط بأرضها ومحيطها الاجتماعي والتاريخي، فعندما بعث ماركس نوردو أحد كبار قادة الحركة الصهيونية المقربين إلى هرتزل بحاخامين اثنين من رجاله ليرفعا تقريراً إلى المؤتمر الصهيوني عن الإمكانية العملية للهجرة إلى فلسطين، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وبعد أن رجعا، كتبا تقريراً جاء فيه حرفياً:«إن فلسطين عروس جميلة وهي مستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلاً»، أي أن هناك شعباً يسكنها وليست أرضاً بلا شعب، كما تصور الدعاية اليهودية المزعومة!

الحالات الأولى
منذ اللحظات الأولى لمحاولة شراء الأراضي الفلسطينية والاستيطان فيها من قبل اليهود الوافدين من بقاع الأرض وبتمويل من المؤسسات اليهودية العالمية، ظهر رفض قاطع وجازم لأي تفريط بهذه الأراضي أو بيعها لليهود، ففي العام 1886 جاء وفد يهودي الى القدس لشراء الأراضي بتواطؤ مع متصرف القدس حينها ابان الاحتلال العثماني للأمة، رفض الفلسطينيون بيع أي قطعة أرض لهم، كما قدموا عريضة ضد المتصرف الى «الصدر الأعظم» مطالبين بمنع بيع الأراضي الفلسطينية لليهود من قبل المتصرف وتحريمهم استملاك الأراضي فيها، والعمل على وقف هجرة اليهود الى فلسطين. وعلى صعيد آخر قامت الصحف الفلسطينية والوطنية بالتنبيه من خطر الاستيطان واليهود القادمين وطالب وجهاء البلدات الفلسطينية بإجراءات صارمة لمواجهة هذه المخططات، وترأس الشيخ محمد طاهر الحسيني مفتي القدس سنة 1897 هيئةً محلية ذات صلاحيات حكومية للتدقيق في طلبات نقل الملكية في متصرفية بيت المقدس، فحال دون انتقال أراض كثيرة الى اليهود.

فساد الحكم
ومع كل هذه الجهود والرفض الشعبي لبيع الأراضي الا أنها باءت بالفشل، ولم تجدِ كل محاولات التحذير والتنبيه من الاستيطان والإجراءات المتخذة، بسبب فساد الحكم العثماني الذي حال دون تنفيذها، واستطاع اليهود من خلال الرشى شراء الكثير من الأراضي المحتلة من السلطنة العثمانية في فلسطين، ثم إن سيطرة حزب الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية عام 1909، والنفوذ اليهودي الكبير بداخله، سهل استملاك اليهود للأرض وهجرتهم الى فلسطين. ومع نهاية الدولة العثمانية في العام 1918 كان اليهود قد حصلوا على حوالى 420 ألف دونم من أرض فلسطين اشتروها من ملاك مزعوم للسلطنة العثمانية عن طريق المزاد العلني الذي تباع فيه أراضي الفلاحين الفلسطينيين العاجزين عن دفع الضرائب المترتبة عليهم.
وقد غطت عمليات الشراء هذه نحو 93% من الأرض التي حصلوا عليها والتي لا تتجاوز 3% من الأرض المحتلة حالياً. ومع كل ذلك، فإن الخطر اليهودي لم يكن يمثل خطراً جدياً على أبناء فلسطين في ذلك الوقت، لضآلة الحجم الاستيطاني والسكاني اليهودي وضيق الأراضي التي اشتروها حيث لم يستطيعوا شراء سوى بعض الأراضي المسروقة من أصحابها من قبل السلطنة العثمانية، و أخيراً للاستحالة العملية لإنشاء كيان صهيوني في ظل الظروف الدولية حينها.

وعد بلفور ويهود الداخل
الا أن العمل الفعلي للاستيطان بدأ مع وعد بلفور الذي أعطى مَنْ لا يملك لمن لا يستحق تحت الفكرة الاولى للدعاية اليهودية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، فعندما وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني 1917 – 1948، كان من الواضح أن هذه الدولة جاءت لتنفيذ المشروع الصهيوني وإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد استثمرت كل صلاحيات الحكم الاستعماري وقهره لفرض هذا الواقع. وقد قاومت الحركة الوطنية الفلسطينية الاستيطان اليهودي بكل ما تملك من وسائل سياسية وإعلامية واحتجاجية، وخاضت الكثير من الثورات والمجابهات. وقد بلغ مجموع ما تمكن اليهود من الاستيلاء عليه خلال فترة الاحتلال البريطاني حوالى مليون و 380 ألف دونم أي حوالى 5.1% فقط من أرض فلسطين رغم ما جنّدته من إمكانات عالمية، ورؤوس أموال ضخمة، وتحت الدعم والإرهاب المباشر لقوة الاحتلال الغاشمة.
ومع كل ذلك فالحقائق الموضوعية تشير إلى أن معظم هذه الأراضي سرّبت لليهود عن طريق مِنَح حكومية بريطانية لأراضي فلسطين الأميرية، أو عن طريق ملاّك إقطاعيين كبار غير فلسطينيين كانوا يقيمون في الخارج، ومنعوا عملياً ورسمياً من الدخول إلى هذه المنطقة لاستثمار أرضهم، فبيعت من دون أن يدروا مَن المشتري.  فقد منحت السلطات البريطانية نحو 300 ألف دونم لليهود من الأراضي الأميرية من دون مقابل، كما منحتهم 200 ألف دونم أخرى مقابل أجر رمزي، ففي عهد هربرت صموئيل أول مندوب سام بريطاني على فلسطين 1920 – 1925 وهو يهودي، قام بمنح 175 ألف دونم من أخصب أراضي الدولة على الساحل بين حيفا وقيسارية لليهود، وتكررت هباته الضخمة على الأراضي الساحلية الأخرى وفي النقب وعلى ساحل البحر الميت.
وكانت هناك أملاك إقطاعية ضخمة لعائلات حصلت على هذه الأراضي، خصوصاً سنة 1869 عندما أقدم الاحتلال العثماني على بيع الأراضي الأميرية، فقامت بشرائها جهات من يهود الداخل، وقد مثَّل ذلك وجهاً آخر للمأساة. فقد باعت هذه الجهات ما مجموعه 625 ألف دونم وأكثر من 200 ألف دونم من أراضي مرج ابن عامر لليهود وتسبّب ذلك في تشريد 2746 أسرة فلسطينية هم أهل 22 قرية فلسطينية، كانت تفلح هذه الأراضي لمئات السنين. وتكررت المأساة عندما باعت عائلات اقطاعية غير فلسطينية أخرى حوالى 120 ألف دونم حول بحيرة الحولة شمال فلسطين، وبيع 32 ألف دونم من أراضي وادي الحوارث ما تسبب في تشريد 15 ألف فلسطيني.

وقد بلغت نسبة الأراضي الزراعية التي باعها الملاّك الإقطاعيون غير الفلسطينيين والقاتنين خارج فلسطين خلال الفترة 1920 ـ 1936 ما نسبته 55.5% مما حصل عليه اليهود من أراض زراعية حينها والتي لاتتجاوز اليوم 3% من الأراضي الفلسطينية المحتلة حاليًا. وعلى الرغم مما يتحمله من قام بهذه البيوع من أبناء هذه العائلات مَن مسؤولية، فإن اللوم لا يقع بشكل كامل عليهم وحدهم، إذ إن السلطات البريطانية منعتهم من الدخول لاستغلال هذه الأراضي، بحجة أنهم أجانب، وذلك بعد أن تم فصل فلسطين عن سورية ولبنان وفق تقسيمات سايكس- بيكو بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي.

أما مجموع ما تسرّب إلى أيدي اليهود من أراض باعها لهم فلسطينيون خلال الاحتلال البريطاني فكان بأقصى حد لا يتجاوز 260 ألف دونم. وقد حصل اليهود على هذه الأراضي بسبب الخطة الممنهجة والعملية المنظمة عبر الظروف القاسية التي فرضتها حكومة الاستعمار البريطاني على الفلاحين والمدنيين الفلسطينيين، ونتيجة لاستخدام البريطانيين أسلوب نزع الملكية الفلسطينية لمصلحة اليهود وفق مواد من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، والتي تخوّل المندوب السامي هذا الحق! حيث لا يمكننا أن ننسى القوانين الإنكليزية التي سنتها حكومةُ الانتداب، والتي وُضعت بهدف تهيئة كل الظروف الممكنة لتصل الأراضي إلى أيدي اليهود. ومن هذه القوانين، قانون صك الانتداب الذي تضمنت المادة الثانية منه النص الآتي: «تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن جعل فلسطين في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي لليهود»! وجاء في إحدى مواد الدستور الذي تحكم بمقتضاه فلسطين النص الآتي: « يشترط أن لا يطبق التشريع العام ومبادئ العدل والإنصاف في فلسطين إلاَّ بقدر ما تسمح به الظروف، وأن تراعى عند تطبيقها التعديلات التي تستدعيها الأحوال العامة…".

وعلى هذا فإن مجموع ما حصل عليه اليهود من أبناء فلسطين حتى سنة 1948 لا يتجاوز 3% من أرض فلسطين، وخلال سبعين عاماً من بداية الاستيطان والهجرة المنظمة لفلسطين، وتحت ظروف قاسية، وفي ظل سياسيات الترهيب والترغيب المتبعة من قوى الاستعمار ويهود الخارج والداخل لم يستطع اليهود تثبيت مشروعهم وإنجاحه في فلسطين، وظهر بشكل واضح إصرار الفلسطينيين على التمسك بأرضهم.
وتؤكد اعترافات رجال الوكالة اليهودية أن تسعة أعشار الأراضى التى اشتراها اليهود حتى عام 1929 اشتريت من ملاّك غير فلسطينيين يعيشون خارج فلسطين، وقال الدكتور «حاييم وايزمان» فى مذكراته: «مع ضآلة المبالغ فإننا تمكّنا فى صيف 1920 من شراء الأراضى الأولى في مرج بن عامر وهى أكبر قطعة اشتريناها فى ذلك الوقت ومساحتها 80 ألف دونم، وكانت هذه الأراضى تخص اقطاعيين غير فلسطينيين منحهم اياها سابقًا الاحتلال العثماني التركي وعليها بعض القرى الفلسطينية المهدّمة والمهدّدة بمرض الملاريا، وظننا أن السعر الذى دفعناه كان عالياً ولكن الوقت أثبت أنه لم يكن كذلك».

وتدل الأرقام التي وجدت في سجلات حكومة الانتداب البريطاني ونقلت إلى الجامعة العربية بعد ذلك أن أرض فلسطين تبلغ مساحتها 72 مليون دونم امتلك منها اليهود أكثر من 2 مليون دونم حتى عام 1948 كما يلي
– 650 ألف دونم تملّكها اليهود في فترة الحكم العثماني.
– 300 ألف دونم منحتها بريطانيا للوكالة اليهودية مجاناً.
– 200 ألف دونم منحتها بريطانيا لشركة البوتاس اليهودية.
– 64 ألف دونم باعتها بريطانيا لشركة البوتاس اليهودية بسعر رمزي.
– 18 ألف دونم منحتها بريطانيا لشركة الكهرباء اليهودية.
– 22 ألف دونم باعتها بريطانيا لليهود من أراضي المشاع.
– 600 ألف دونم باعتها أسر غير فلسطينية لليهود.

العروبة الوهمية
إن الخسارة الحقيقية لأرض فلسطين لم تكن بسبب بيع الفلسطينيين لأرضهم، وإنما بسبب هزيمة العروبة الوهمية ونكبتها في حرب 1948، وإنشاء الكيان الصهيوني على 77% من أرض فلسطين، وقيامه مباشرة وبقوة السلاح والمجازر الإرهابية بطرد أبناء فلسطين، والاستيلاء على أراضيهم، ثم باغتصاب باقي أرض فلسطين إثر حرب 1967 مع الجيوش العربية، وقيامه بمصادرة الأراضي تحت مختلف الذرائع. وقد ظلت نظرة أبناء فلسطين حتى الآن إلى من يبيع أرضه أو يتوسط بالبيع نظرة احتقار وازدراء، وظل حكم الإعدام يلاحق كل من تُسوِّل له نفسه بيع الأرض، وقام رجال الثورة الفلسطينية بتصفية الكثيرين من هؤلاء على الرغم من حماية قوات العدو الصهيوني الغاصب لهم.

أنَّ مصدر شائعات بيع الفلسطينيين لأراضيهم هو كتّاب كتبوا في أَكثر الصحف العربية انتشاراً، ونشروا أكاذيب كثيرة، شوّهوا فيها صورة الفلسطيني بهدف أن يُفقِدوا شعوبهم الحماس لفلسطين، وبلغ بهم الكذب حداً امتهنوا فيه جيوشهم، فقالوا: «إن الفلسطينيين يبيعون الضابط العربي لليهود بخمسة جنيهات، والجندي بجنيه واحد»، فيما الشعب الفلسطيني يحمل لواء الجهاد والمقاومة منذ أكثر من ثمانين عاماً، وقدم مئات الألوف من الشهداء، وما زال يقدم، ويقف والجبهة القومية في الميدان، صامداً صابراً مجاهداً بالرغم من اجتماع الأعداء عليه، وتخلي العربان عنه وتآمرهم عليه.
يقول اليهودي مورغنثو «سفير الولايات المتحدة السابق في تركيا» عن الدعاية اليهودية: «إنها أعظم تضليل ظهر في التاريخ»!  

السابق
الطقس: انحسار المنخفض الجوي عن الحوض الشرقي للمتوسط وتبقى الكتل الهوائية الباردة
التالي
دوفريج: لسحب الملف الاقتصادي من التجاذب السياسي