مستقبل الشرق الأوسط للكيانات الصغيرة ؟

ثمة اعادة رسم لخريطة المنطقة. هناك «اعادة تشكيل للشرق الاوسط» على حدّ تعبير الجنرال كولن باول وزير الخارجية الاميركي في اثناء الولاية الاولى لجورج بوش الابن. كان باول، الذي عمل في الماضي رئيسا لهيئة الاركان المشتركة للجيوش الاميركية، يتحدث عن مستقبل المنطقة في مرحلة ايجاد مبررات لحرب العراق.
كان ذلك في مثل هذه الايّام قبل تسع سنوات بالتمام والكمال. كان باول بصفته عسكريا يمتلك خبرة طويلة في الشرق الاوسط، خصوصا انه قاد عمليا الحرب التي شنها التحالف الدولي الذي حرّر الكويت، يعني كلّ كلمة يقولها. ها هو الشرق الاوسط يعاد تشكيله من جديد. ثمة دول ستتقسم ودول اخرى ستنشأ. على سبيل المثال وليس الحصر من يضمن بقاء العراق موحّدا في غضون سنة او سنتين او ثلاث في ابعد تقدير؟ الى متى يمكن ان يظلّ الاكراد من دون دولة في حين حصل سكّان جنوب السودان على ما يمكن وصفه قانونيا بدولة؟

لم يكن نشر الديموقراطية همّا اميركيا في اي وقت من الاوقات. لا في عهد بوش الاب ولا في عهد بوش الابن. في عهد بوش الاب كان هناك فريق عمل يعرف تماما معنى الاخلال بالتوازنات الاقليمية.
لهذا السبب، اكتفى الجيش الاميركي بطرد القوات العراقية من الكويت. كان في امكانه متابعة مسيرته الى بغداد واسقاط النظام. الاّ ان بوش الاب الذي كان الى جانبه سياسيون واستراتيجيون كبار مثل وزير الخارجية جيمس بيكر ومستشاره لشؤون الامن القومي الجنرال برنت سكاوكروفت، أدرك ان النتائج التي يمكن ان تترتب على مثل هذه المغامرة ستكون بالغة الخطورة. لذلك، فضّلت الادارة الاميركية في العام 1991 وقف الزحف في اتجاه بغداد وسمحت في الوقت ذاته للقوات العراقية الموالية لصدّام حسين بقمع انتفاضتي الاكراد واهل الجنوب. سقط جراء ذلك آلاف الضحايا. لم يطرح الاميركيون على نفسهم اي اسئلة من اي نوع كان، بل تركوا النظام العائلي- البعثي في العراق يتآكل من الداخل. وكانت الاشارة الاولى الى هذا التآكل فرار حسين كامل صهر صدّام حسين مع عائلته الى الاردن صيف العام 1995!

كذلك، سمحت الادارة الاميركية وقتذاك للرئيس السوري الراحل حافظ الاسد بالبقاء عسكريا في لبنان مكافأة له على القرار الشجاع الذي اتخذه والقاضي بمشاركة القوات السورية في حرب تحرير الكويت. كانت تلك المشاركة رمزية بالطبع، لكنّ الاميركيين كانوا يسعون الى اوسع تغطية عربية ممكنة للحملة العسكرية التي اعادت الكويت الى اهلها وازاحت عنهم كاهل الاحتلال.
كان نشر الديموقراطية ولا يزال آخر الهموم الاميركية. كان التركيز الاوّل لبوش الابن والفريق المحيط به على زعزعة المنطقة وزعزعة الكيانات فيها انطلاقا من العراق الذي يعتبر ركيزة اساسية من ركائز النظام الاقليمي.
ما شهدناه في السنوات التسع الماضية وما زلنا نشهده الآن ليس مشروعا اميركيا للشرق الاوسط. لا وجود لمثل هذا المشروع إلاّ في بعض المخيلات المريضة التي لا تريد الاعتراف بأنّ ايران كانت شريكا فاعلا في الحرب الاميركية على العراق وذلك منذ الساعة الاولى لبدء الاعداد لتلك الحرب.
اعتقد النظام في ايران ان اعادة تشكيل الشرق الاوسط سيصب في مصلحته. مثل هذا الامر جائز، علما ان كل المعطيات تشير الى انّ من الباكر جدا تحديد الصيغة التي سيستقر عندها الشرق الاوسط في المدى القصير. في الماضي، ثمة فارق كبير بين الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية. قبل السنة 2011، كانت هناك انقلابات عسكرية وليس ثورات شعبية. بعد الانقلاب الذي حصل في مصر في العام 1952، قام نظام عسكري معروف جيدا ان هدفه وضع السلطة في يد مجموعة معينة يرمز اليها ويتزعمها فرد بحد ذاته اسمه جمال عبد الناصر. لم تحصل ثورة شعبية في مصر. لم تحصل ثورة شعبية في سورية ولا في العراق. حتى التغيير في تونس في العام 1987 كان بفضل تفاهم بين العسكر والامن. تحالف كبار الضباط في الجيش والامن وقرروا التخلص من الحبيب بورقيبة. هذا كلّ ما في الامر.

ما نشهده اليوم في تونس ومصر وليبيا وسورية وحتى في اليمن تغييرات ذات طابع مختلف. لا يزال الزلزال العراقي في بدايته. انها ثورات حقيقية يصعب التكهن بما يمكن ان تؤدي اليه. الامر الوحيد الاكيد ان الانظمة التي عرفناها والتي قامت على فكرة تشكيل قوات خاصة تتولى حماية الرئيس، اسمها في معظم الاحيان «الحرس الجمهوري»، انما انتهت صلاحيتها. تكمن المشكلة في ان الانظمة التي ستخلفها غير واضحة المعالم. هل هناك من يستطيع القول ما مستقبل تونس او مصر او ليبيا او اليمن… او سورية؟
كلّ ما يمكن قوله ان الثورات التي حصلت وستحصل مرتبطة اساسا باعادة تشكيل المنطقة.

حطمت هذه الثورات المحرمات، او على الاصح مع ما كانت الانظمة التي سقطت تعتبره محرمات. سقط مفهوم السيادة المضحك – المبكي الذي يستخدمه النظام السوري مثلا لقتل شعبه. ما هو أكيد ان الشعوب ستنتصر في نهاية المطاف. لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه بالحاح وبشكل دائم كيف ستكون تونس الجديدة وليبيا الجديدة ومصر الجديدة وسورية الجديدة واليمن الجديد والعراق الجديد؟ هل من مشروع اقتصادي قابل للحياة في اي من تلك الدول ام ان المستقبل للكيانات الصغيرة التي سيبحث كلّ منها عن مكان له في الشرق الاوسط؟ ستبحث تلك الكيانات عن مثل هذا المكان بعيدا عن الشعارات الفارغة التي استهلكتها الانظمة الديكتاتورية والمؤسسات التي انتجتها. لم يكن من همّ لهذه المؤسسات سوى نهب الدولة والمواطن في دولة يمكن ان توصف بأيّ شيء باستثناء انها دولة القانون.  

السابق
الإسلاميون قادمون.. ما العمل؟
التالي
محكمة الحريري تنطلق في مرحلة جديدة لثلاث سنوات وحزب الله لا يملك سوى طلب تعديل الإتفاق