أفتقد لبنان الاستقلال: لبنان الحرية والفكر!

 تتلازم صورتان للوطن وللدولة التي تقوم على أرضه: صورته في نفوس أبنائه وصورته في نفوس أبناء العالم. وصورة لبنان المستقل منذ عام 1943، بفضل ميثاقه الوطني، في نفوس أبنائه أنه وطن الحرية، أياً كانت الشوائب التي اعترت ممارستها ما بين عامي 1943 و 1975.
وصورة لبنان لدى أبناء العالم في الفترة نفسها، وفي طليعتهم أبناء الوطن العربي، إنه وطن الفكر. وقد أتيح لي طالباً جامعياً، ودبلوماسياً، وأستاذاً جامعياً، ومحاضراً في جامعات العالم، ومشاركاً في المؤتمرات العربية والدولية، أن أحيا صورة لبنان الحرية والفكر، حياة رائعة، افعمتني بالشعور بأن الوطن يكبر بما فيه من حيّز واسع للحرية والفكر، مهما صغرت أبعاده الجغرافية. وكانت هذه الصورة هي التي تعطي لبنان معنى استقلاله. وكان آباء الاستقلال حريصين على إبرازها متوجة لأي صورة أخرى للبنان يحاول بعضنا أو يحاول الغير أن يروجها عنه.
وشهد لبنان في أول عهده بالاستقلال حدثين تاريخيين، كانا تزكية لهذا المعنى لوجوده. والحدث الأول كان المؤتمر الثقافي العربي الأول، الذي عقد في بيت مري عام 1947، برئاسة المغفور له وزير الخارجية والتربية الوطنية آنذاك الاستاذ حميد فرنجية.
وكان الحدث الثاني انعقاد المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم الـ(يونيسكو) عام 1948 في بيروت وحميد فرنجية المسؤول الأول عن الدعوة إليه وعن تنظيمه وعن رئاسة وفده إليه.
فجاء اختيار دول الجامعة العربية ودول الأمم المتحدة لبنان مقراً لهذين المؤتمرين تزكية لامتيازه وطناً للحرية والفكر.
فالمؤتمر الثقافي، عربياً كان أم دولياً، لا يعقد إلا حيث يتوفر المناخ اللازم لحرية التعبير، وإلا حيث يكون للفكر مستوى لفهم ما يعبّر عنه.
وكان أهل الفكر في لبنان مختلفين حول المشاركة في المؤتمر الثقافي العربي، مجمعين على المشاركة في المؤتمر الثقافي الدولي. ومرجع الاختلاف حول المؤتمر الأول خشية الالتزام بهوية لبنان العربية ومرده الخوف من انفتاح لبنان على الثقافة العربية وحدها وانغلاقه على سائر الثقافات الإنسانية. فكان في تزامن المؤتمرين العربي والدولي الردّ الشافي على أي تخوف ! واعتصم حميد فرنجية بحرية الحوار في وطن الحرية حجة لإقناع الجميع بوجوب المشاركة في المؤتمرين لطرح كل ما عندهم من أفكار من دون خوف أو وجل.
وكان لبنان في هذه الفترة الأولى من استقلاله يختار ممثلي هذا الاستقلال في العواصم العربية وعواصم العالم. فانتدب سبعة من ألمع مفكّريه رسلاً له لسبع عواصم: شارل حلو للفاتيكان، وشارل مالك لواشنطن، وخليل تقي الدين لموسكو، وكاظم الصلح لبغداد، ويوسف السودا لبرازيليا، وجبران التويني لبونس أيريس، وسليم حيدر للرباط. كان كل من هؤلاء مدرسة في فكره الفلسفي، او في فكره السياسي، أو في فنه الأدبي، فكانوا رسل ثقافة وحضارة أكثر مما كانوا ممثلي دولة، وصدقت كلمة قرأتها للسفير كاظم الصلح في تقرير له من بغداد، يخاطب فيه وزير الخارجية قائلاً: "لئن كان لبنان بمساحته صغيراً كبسطة الكف إلا أنه بفكره كبير كبساط الدنيا".
وكان هذا المستوى الفكري الرفيع للسفراء الرسميين الجدد يتفق مع مستوى سفراء أحرار سبقوهم إلى الاشتهار في عالم الفكر والعلم والفن. فكان لبنان يعرف في مصر والعالم العربي بأهرام جبرائيل تقلا وأنطوان الجميل وداود بركات، وبمقطم فارس النمر ويعقوب صروف، وبمقتطف يعقوب صروف وشبلي الشميل، وبهلال جرجي زيدان، وبمنار رشيد رضا، وبقاهرة أسعد داغر. وكان يعرف في جنيف بمجلة الأمة العربية لشكيب ارسلان، ويعرف من باريس بالعازوري وبعنترة شكري غانم، ويعرف في الولايات المتحدة بنبي جبران خليل جبران والهدى للمكرزل، وبلزوميات المعري ترجمة أمين الريحاني، وبكتاب العرب لفيليب حتي، وباختراعات حسن كامل الصباح، وبالفتوحات الجراحية القلبية للدكتور دبغي وبالمسرحيات الهزلية لداني توماس !
فالتقت السفارة الرائدة والسفارة اللاحقة في إشراق صورة لبنان وطن الحرية والفكر. وكان يكفينا نحن الدبلوماسيين الشباب، أن نذكر أيا من هؤلاء السفراء الأوائل والأواخر، ونحن نخاطب أي محدث دبلوماسي حول الشأن اللبناني أو الشأن العربي، لنرتفع بمتحدثنا لمستوى الإصغاء الذي نتوق إليه. وكان حديثنا عن الشأنين اللبناني والعربي لا ينقطع. ولدى وصول أول سفارة سورية لباريس أمضت ستة أشهر ضيفة علينا في السفارة اللبنانية في شارع كوبرنيك، ريثما وجدت لها مقراً ملائماً. ولما قصفت المدافع الفرنسية دمشق وقصر رئيسها وبرلمان شعبها في أيار 1945، عقدت السفارتان معاً مؤتمرهما الصحافي الاحتجاجي في السفارة اللبنانية. وكان الملحق الصحافي اللبناني هو المتحدث باسم السفارتين. وكان يطرد من فرنسا جزاءً له على ما قال وما فعل!
وفي واشنطن ونيويورك، كان لبنان الحرية والفكر عنوان وجودنا الدبلوماسي، بعد أن كان قبل ذلك عنوان وجودنا المهجري. فكان شارل مالك وصبحي المحمصاني مشاركين في تأسيس الأمم المتحدة. وكان مالك المحاضر المنشود لكل حفل جامعي.
وشهدت منصات الأمم المتحدة ألمع رجالاتنا يعتلونها مدافعين عن قضايا العرب الحقة وعن حقوق الإنسان، من كميل شمعون لشارل حلو ولسليمان فرنجية، ومن رياض الصلح لرشيد كرامي، ومن وديع نعيم لفيليب تقلا، ومن فؤاد عمون لفؤاد الترك، ومن كريم عزقول وغسان التويني لرشيد فاخوري، ومن نديم دمشقية وجميل مكاوي ليحيى المحمصاني وخليل عيتاني ! وكان هؤلاء يرافعون عن حقوق الإنسان وحقوق العرب حتى وقعت الواقعة عام 1975، فلم يعد لدبلوماسينا أن يدافع عن حق لبنان في أن يكون ! ولبنان كائن حي، بالرغم من كل ما أصابه، منذ عام 1975 حتى الآن.
ولكن الحيوان هو الذي يطلب الكينونة وحدها. وأما الإنسان فإنه ينشد الكينونة الفضلى. ولبنان الكينونة الفضلى هو لبنان الحرية والفكر. وهو لبنان الذي لا بد لنا أن نستعيده. فلنعبئ أنفسنا في الذكرى الخامسة والأربعين لاستقلالنا لاستعادة وجودنا ولبعث معنى هذا الوجود. ولا يستقيم وجودنا إلا إذا تلازم مع معناه. ومعناه أننا موجودون لأننا أحرار. وأننا أحرار لكي نفكر.
وأننا مفكرون أحرار لنخلق لبناننا المستقل كل يوم خلقاً جديداً فلنجدّد وجودنا وحريتنا وفكرنا، ولنجدد خلقنا تجديداً دائماً، وهذه الصورة لحقيقة وجودنا يجب أن نستعيدها في نفوسنا قبل أن نعيدها لنفوس غيرنا. وما الذي ينفعنا لو استعدنا العالم وخسرنا أنفسنا ؟ فلنستعيد أنفسنا لنستيعد العالم!

() من مذكرات (مفكر الانماء في لبنان ) المرحوم د.حسن صعب. بمناسبة ذكرى الاستقلال.
 

السابق
سورية على خط النيران العربية!
التالي
هواجس إيران لما بعد بشار